لعبت مسيرة الأخوين الرحباني عاصي ومنصور دورًا هامًا في عالم المسرح العربي، واستطاعوا مع صوت فيروز أن يوثقوا ذاكرة الحروب والتناقضات السياسية والاجتماعية، التي شهدتها فترة الستينيات والسبعينيات في لبنان ضمن طابع خيالي. خلق الأخوان حوارات بسيطة في مدن متخيّلة وإمبراطوريات وهمية، ورسما عالمًا من بطولة فيروز وعدد من النجوم هذه الحقبة مثل نصري شمس الدين وجورجيت الصياغ وإيلي شويري. عاشت هذه العوالم أحداثًا خيالية منسوجة بالواقع، نقل فيها صوت فيروز فلسفة الرحابنة عن الحياة والحرب والهجرة والاقتتال، واتسمت هذه المسرحيات بطابع أدبي يقترب من أدب الخيال. وظف المؤلفان بمساعدة عدد من المخرجين والمنتجين تقنيات الإضاءة والديكور والكوريوغرافي، وقدما استعراضات خيالية من أبرز ما أنتجته الساحة اللبنانية في تلك الفترة.
مسرحية هالة والملك
خرجت مسرحية هالة والملك سنة ١٩٦٧ بطابع اقترب من الكوميديا، لتحاكي أحداثها قرية خيالية اسمها سيلينا يحكمها الملك الطيب داجور، الذي لعب دوره الفنان نصري شمس الدين، بينما لعبت فيروز دور فتاة تعمل كبائعة متجولة اسمها هالة. أضاء منصور وعاصي في هذه المسرحية على سلوك البشر بالجشع والطمع، وتحكي الأحداث عن تصرفات الحاشية التي تحاول خداع الملك بينما ترفض هالة الانضمام إليهم. قدمت فيروز في هذا الدور عدد من الأغاني منها "لا لا يابا لا لالا" وهي الأغنية التعريفية لشخصيتها، شخصية فتاة فقيرة آتية من القرية المجاورة درب اللوز لتبيع الأقنعة في احتفال يشبه احتفالات الهالوين، أو البربارة كما تسمى في لبنان. قدمت فيروز في هذه المسرحية أيضًا "حبيبي بدو القمر" والتي افتتحتها بموال "دقت على صدري" من كلمات عبدالله غانم على مقام السيكا ما أعطى لشخصيتها الحزن والشجن المطلوبين. كما غنت في الفصل الثاني واحدة من أكثر أغانيها شاعرية وكلمات مليئة بالدفء "شايف البحر شو بعيد" لحبيبها المجهول في المسرحية، تنقّلت خلالها بين مقام العجم والسيكاه على دقات البيانو بينما غرق صوتها بالمشاعر، من كلمات وألحان الأخوين رحباني.
مسرحية جبال الصوان
لطالما اتجه منصور وعاصي إلى رسم مكان متخيّل في مسرحياتهم، مع ربط هذا المكان بعمق الأحداث الحقيقية من الناحية السياسية والاجتماعية. استعرضت مسرحية جبال الصوان معاناة أهالي جبال الصوان المتخيّلة مع الاحتلال، ورغم أنها لا تعتمد وقائع تاريخية حقيقية إلا أنها جاءت بعد أحداث ١٩٦٧ السياسية الصعبة التي شهدتها بلدان المنطقة في الشام ومصر. اعتمدت على فصلين كأغلب مسرحيات الرحابنة، وقد عرفت تقنيات جديدة من الإضاءة والديكور وتصميم الرقصات، حيث عُرضت على مسرح مدينة بعلبك في صيف ١٩٦٩. لعبت فيروز دور غُربة ابنة بطل جبال الصوان مدلج الذي أدّاه منصور الرحباني، واشترك فيها جملة من نجوم حقبة الستينيات مثل إيلي شويري و جورجيت الصايغ ونصري شمس الدين. ألّف ولحّن المسرحية الأخوان بالتعاون مع فيلمون وهبي الذي قدم أغنية "صيّف يا صيف"، وغنت فيها فيروز لكروم العنب والأرض والعيد على إيقاع الدبكة. كان دور غرُبة في المسرحية أن تطرد اليأس من قلوب الناس وتذكرهم بحب الوطن رغم الاضطهاد وظلم المحتل، فقدمت واحدة من أبرز الأغاني الوطنية "وطني يا جبل الغيم الأزرق"، كما نقل صوتها في "يا رعيان الجبال" حياة الفلاحين وأصحاب الأرض.
مسرحية يعيش الملك
دارت أحداث مسرحية "يعيش" في دكان أبو ديب القابع على حدود بلد متخيّل اسمه ميدا، عرضت لأول مرة في شتاء سنة ١٩٧٠ على مسرح البيكاديللي في بيروت، وطالت الأحداث السياسية في فترة الستينيات والسبعينيات في منطقة الشام وتحديدًا سوريا ولبنان. حكت أحداثها عن الإنقلابات الهشة التي شهدتها هذه الفترة، حيث أعلنت الموسيقى الافتتاحية العسكرية للفصل الأول عن حدوث انقلاب واحتلال مبنى الإذاعة والتلفزيون في ميدا. لعبت فيروز دور هيفاء حفيدة صاحب الدكان أبو ديب ودار بينهما أحاديث غنائية، كما قدمت عدد من الأغاني منفردةً منها "يا رايح ع كفرحالا" على مقام البيات وهي أيضًا قرية متخيّلة. غنت بعدها "أنا وشادي" لتحكي فيها فتاة الدكان هيفاء عن صديق طفولتها شادي الذي اختفى على لحن هادئ وحزين، وقد نقلت هذه الأغنية فلسفة الرحابنة عن أوجاع الحرب وكيف دفعت الطفولة ثمن الاقتتال والحروب في لبنان.
مع دخول الليل إلى أحداث المسرحية، غنت فيروز "ليلية بترجع يا ليل" بأسلوب طربي لتحكي عن أحزان الناس وارتباطها بصوت العود وأغانيه "ليلية العينين السود بيطلوا يبكوني/ غزلوني على صوت العود غنيّة وغنوني". وعندما حان وقت الخريف عاتبت حبيبها حسب الفصول في "حبيتك بالصيف"، والتي أعطاها الأخوان الرحباني لحنًا اقترب من تأثيرات الجاز بصوت الجيتار وخط الدرامز، وقد انتشرت هذه الأغنية عالميًا واستعان بلحنها المغني الفرنسي جان فرنسوا مايكل في أغنيته "كوبابل" سنة ١٩٧١.
مسرحية ناطورة المفاتيح
تناول الأخوان موضوع الهجرة والرحيل في أعمالهما مثل مسرحية البعلبكية في الستينيات عندما غنت فيروز "راحوا مثل الحلم"، وقد خرجت مسرحية "ناطورة المفاتيح" سنة ١٩٧٢ في الفترة التي ارتفع فيها عدد المهاجرين من لبنان إلى كندا والبرازيل وأميركا هربًا من الحرب ووطأتها. تحكي هذه المسرحية عن شعب يعيش مرحلة من اليأس والإحباط في المملكة الافتراضية سيرا بسبب الملك الظالم غييون ما دفعهم للرحيل، بينما تؤدي فيروز دور فتاة من الشعب باسم زاد الخير وتحاول حثهم على البقاء في أرضهم. تحمل هذه المسرحية الكثير من الحوارات الغنائية الغنيّة من تأليف وكتابة عاصي ومنصور والتي لا تزال حيّة حتى اليوم مثل "طلعنا على الضو" التي تعتبر من أبرز الأغاني الثورية اللبنانية. غنت فيروز بدور زاد الخير التي فضلت البقاء بأرضها على الرحيل مع سكان سيرا "طريق النحل"، وحكت فيها عن هجرة الحبيب في أبيات غارقة بالحزن واللوعة. سلّم الراحلون مفاتيحهم لها فصارت ناطورة مفاتيح، وقد حملت هذه المفاتيح رمزية العودة وعدم نسيان الوطن، لتقدم بعدها واحدة من أثقل أغاني الرحيل "وينن"، وقد حملت كلمة وينن تأثير الصدى ما أعطاها بعد درامي حزين ناسب مشهدية الوداع. كما قدمت في هذه المسرحية أغاني للأرض والطبيعة في "لوز طلع اللوز" عندما حلّ الربيع و"طلع القمر" عند مناجاة الليل.
مسرحية ميس الريم
تحكي مسرحية "ميس الريم" عن فتاة اسمها زيّون آتية من المدينة إلى القرية لزيارة جدتها في بلدة كحلون، لكن سيارتها تعطلت في ميس الريم حيث تدور أحداث المسرحية الدرامية والكوميدية. ألف المسرحية عاصي ومنصور وقد شارك معهما بالتلحين إلياس وزياد الرحباني بينما أخرجها أنطوان ريمي. خرجت "ميس الريم" في ١٩٧٥ السنة التي كان فيها لبنان يغلي على فوهة بركان الحرب الأهلية، قدّمت فيروز خلال أحداثها أغنية "سألتك حبيبي" بعد أن شهدت على صراع أهالي القرية وتفرقهم تاركينها وحدها دون تصليح سيارتها، وقد حملت هذه الأغنية دلالات ورمزيات سياسية في قالب عاطفي.
دخلت غنائيات المسرحية في ثيمات الحزن والندم على السنين التي فاتت في "يا سنين الي راح ترجعيلي"، كما تغني زيّون للطرفين المتنازعين في "بيقولوا الحب" وتدعوهم إلى الصلح قبل أن ينتهي العمر بالشجار والانفصال. لعبت هذه المسرحية دورًا مهمًا في مسيرة الرحباني والتي أثبتت على مرّ السنين أن أسلوبهم الأدبي والفكري قد تطور مع جماليات المسرح من اللوحات الراقصة إلى الأغاني الفلكلورية. ظهرت هذه الإبداعية في أغاني المسرحية الراقصة مثل "يا مارق ع الطواحين" التي أداها نصري شمس الدين، و"آخر أيام الصيفية" من غناء فيروز.