قبل أيام قليلة، احتفل العالم بذكرى ميلاد الموسيقي الراحل جيف باكلي، الذي رحل في الحادية والثلاثين من عمره.
هذه الذكرى تعيدنا إلى عيد ميلاده التاسع والعشرين تحديدًا؛ اللحظة التي جلس فيها أمام رقم لم يكن عاديًا. لقد تخطّى السن الذي توفي عنده والده تيم باكلي، وكأنّه عبر عتبة كان يخشاها طويلًا، أو كسر النبوءة التي طاردت العائلة، لكنه لم يبتعد عنها كثيرًا.
فبعد سنوات قليلة، سيبتلع النهر الشاب، تاركًا وراءه إرثًا موسيقيًا كثيفًا، وأسئلة مفتوحة صارت مادة للأعمال الوثائقية. أحدثها هو وثائقي "It’s Never Over, Jeff Buckley" الذي يبدأ عرضه في 4 ديسمبر على HBO وHBO Max، وفيه أرشيف يُكشف للمرة الأولى، وشهادات من أقرب الناس إليه، والدته وحارسة إرثه ماري غويبرت، شريكات حياته، وزملاء شهدوا تشكل أولى أغنياته وكيف أصبح نقطة تحول في صوت الروك الآتي من التسعينيات.
مع ذلك، تبقى سيرة باكلي معلقة عند يوم واحد من عام 1997؛ اليوم الذي نزل فيه إلى المياه مرتديًا ثيابه كاملة؛ حذاءً أسود وقميصًا عليه شعار "ألتامونت"، وهو يغني أغنية "هول لوتا لوف" لليد زيبلين. دقائق قليلة كانت كفيلة بأن يبتلعه النهر "الذئب"، غارقًا في تيارات قناة وولف ريفر في نهر ميسسيبي الغادر.
لم يكن في جسده أي أثر لمواد ممنوعة. روايات أصدقائه، تصريحات المقريبن، وعناوين الصحافة كلها بقيت في فلك التخمينات والتصورات، فيما غاصت الحقيقة معه في عمق النهر.
نبؤة الأب وشبح الموت
لم يكن جيف غريبًا عن القدر الملتبس. ولد لأسرة تنتمي إلى الموسيقى، لكنه ورث أيضًا هشاشة والده تيم باكلي، المغني الذي غادر الحياة طوعًا في سن الـ 28. التقى الابن بالأب مرتين فقط خلال حياتهما، لكنهما التقيا كثيرًا في الغناء. في Song to the Siren، يرسم تيم صورة الموت الذي سيطال ابنه بعد سنوات: "Swim to me… Let me enfold you". كان يجهل أنه يكتب نبوءة موجعة لابنه.
جيف نفسه كان يكرر نبوءة أخرى مشابهة، قائلاً لأصدقائه إنه "لن يعيش طويلًا"، كان الموت يطارده، وينساب إلى أغنياته وموسيقاه، ألحانًا وكلمات.
مزج باكلي في موسيقاه بين الجاز والبلوز والروك والكانتري، وأضاف إليها إيقاعات شرقية وتلوينات صوفية تأثر فيها بعملاق القوالي نصرت فاتح علي خان. ومن مايلز ديفيس أخذ شغف الارتجال الحر وصناعة المساحة، بينما ابتكر بنفسه أسلوب "النقر على الأوتار" الذي أصبح توقيعه الموسيقي الخالص.
كان صوت جيف آلة أخرى للتجريب، ينتقل بخفة بين الفالسيتو والطبقات الغليظة، ملامسًا حدود الغناء الأوبرالي مع جرأة في إعادة تخيل الكلاسيكيات، ففي Dream Brother يعيد تقديم آريا هنري بورسيل Dido’s Lament، وفي Hallelujah، يخلع عن الترنيمة قدسيتها الغوسبلية ليحولها إلى صلاة شخصية وعاصفة عاطفية تعد من أعظم التسجيلات في تاريخ الموسيقى حتى يومنا هذا.
كل تلك العناصر اجتمعت لتصنع نجاح ألبومه الأول "Grace" عام 1994، الذي فتح له أبواب العالم، لكنه وضعه أيضًا أمام كابوسه الأكبر: رحلة صناعة الألبوم الثاني.
ألبوم ثانٍ يختصر ملامح باكلي
أغان كثيرة من هذا الألبوم بقيت مبعثرة، يعيد جيف كتابتها ثم يرفضها أو يطلب إتلافها. يستبدل أعضاء فرقته، يلغي المشروع ثم يعيد أحياءه. لم يكتمل الألبوم إلا بعد وفاته بعام تحت عنوان Sketches for My Sweetheart the Drunk، وكأنه شظايا من عمل تولى القدر إكماله.
يختصر الألبوم ملامح باكلي كلها: العاشق المخذول، الشاب الساخر، وفيلسوف الشارع، متجهًا نحو موضوعات أكثر مفاهيمية وأقل حسّية. في Sky Is a Landfill يهاجم النزعة الاستهلاكية وسطوة الإعلام، نبوءة تكاد تكون معاصرة رغم أنها سبقت ذروة عصر الهواتف الذكية. وفي Nightmares by the Sea يعود إلى هاجس الماء الذي يتكرر في أغنياته، ما دفع البعض لقراءة حادثة غرقه على أنها محاولة أخيرة لمواجهة هذا الرهاب، لا الاستسلام له.
في New Year’s Prayer يعود باكلي إلى الموسيقى الصوفية التعبدية التي تأثر بها. ثم يأتي أكثر أعماله إثارة للجدل، Everybody Here Wants You، بأجوائها الـ الآر-آند-بي الخفيفة، عزوفًا تامًا عن المسار الذي عرفه جمهوره، ثم يُختتم الألبوم بأداء منفرد لأغنية Satisfied Mind التي سجّلها في جلسة إذاعية عام 1992. أغنية عن غناء الروح؛ عمل أدّاه كثيرون عبر العقود، من إيلا فيتزجيرالد إلى بوب ديلان، وفي نهايتها يترك جيف رسالة تطمئن قلوب محبيه:
"عندما يحين وقتي، سأغادر هذا العالم القديم بعقل راض."






