في فترة الظهيرة تحت أشعة شمس الرياض، وقفنا أمام بوابة ضخمة ومهيبة تعكس جمال الفن المعماري التقليدي في المملكة، ودخلنا إلى المنتجع التراثي "حيّالة فهد" في قلب الدرعية. كانت تفاصيل المكان تنبض بالحياة من النقوش الملوّنة إلى الأعمدة الرخامية العريقة. بمجرد عبورنا البوابة، شعرنا بأننا نسافر عبر الزمن إلى قلب التراث السعودي.
في هذا الإطار المُهيب، وصَلَ الفنان غريّب آل مخلّص إلى جلسة التصوير، كان مبتسمًا ومفعمًا بالحماس ومستعدًا للقاء فريق بيلبورد عربية. كان واضحًا من لحظة وصوله أنه مرتاح تمامًا في هذا الجو الذي عكس ارتباطه العميق بتراثه الثقافي. مع كل خطوة داخل المكان، ومع كل ابتسامة وزعها غريّب على الحاضرين، بدأنا ندرك أن هذه اللحظات ستكون ملهمةً، وأنه سيفتح لنا نافذة على عالم الشيلات ويشاركنا خبرته ومعرفته الواسعة بهذا اللون.
انتقل الفنان بعد جلسة التصوير إلى موقع المقابلة بهدوء شديد، وانعكس على وجهه التعمّق في التفكير مع بداية المقابلة، لكن سرعان ما تغيّرت ملامحه بعد عدة أسئلة، وكأننا ضربنا على الوتر الحساس بسؤاله عمّا هو خبير وشغوف به، فاسترسل في الحديث معرّفا عن نفسه بأنه ابن نجران وعاشق الشيلات، وتطرق للحديث عن ولعه بالموسيقى منذ صغره ناسبًا الفضل في ذلك إلى تأثره بأخيه الكبير طلال والعديد من الفنانين مثل محمّد عبده وخالد بن عبدالرحمن. كما استعاد أوائل ذكرياته الفنية عندما كان يقدّم الأناشيد والأغاني الوطنية وغيرها في المدرسة.
تحدّثنا بعدها مع الفنان عن ماهية الشيلات وبدايتها، فأجابنا شارحًا بأنها: "موروث شعبي قديم تطوّر.. ومجال فني ما يختلف عن الأغاني، وكلمات فيها نوع من البداوة"، فالشيلات كانت عبر التاريخ مقاطع شعرية، تُغنّى بألحان ونغمات معيّنة من قِبل رعاة الإبل وغيرهم، حتى وصلت لما هي عليه اليوم بعد تطويرها بإضافة الموسيقى والتوزيعات الآلاتية، لتصبح كما نعرفها جنرا الشيلات.
بدأ غريّب إنتاجه للشيلات في منتصف العقد الماضي بمحض الصّدفة، كتجربة نشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، متفاجئًا بتعليقات إعجاب كثيرة ومطالبات بجديدِه في هذا اللون، يعلّق الفنان على ذلك قائلًا: "هم حبّبوني في الشيلة أكثر، وصارت موهبة وحبيت الشّغلة واستمريت فيها".
بعد مرور ما يقارب عقدًا على انطلاقته، يتربّع غريّب اليوم على عرش ملايين المشاهدات وعمليات البث بمختلف المنصّات، مثل شيلته "خيبة" التي أطلقها عام 2021 ووصلت لما يقارب 240 مليون مشاهدة على منصة يوتيوب وحدها: "نقلة نوعية بالنسبة لي. أظهرت اللي عندي .. والحمدلله توفّقت فيها .. وأنا أحب هالشيلة كثير وغالية علي، وكان كلّها مكمّل لبعض".
ساهم ذلك في وصول الفنان لرقم قياسي في فترة وجيزة، حيث تعدّت مشاهدات قناته على يوتيوب أكثر من مليار مشاهدة، وقد أكّد الفنان على انتشار الشيلات وتصدّرها بقوله "الرقم هذا يدل على قبول الناس للشيء اللي أنت تقدّمه".
مع هذه المشاهدات التي حطّمت موازين عالم الشيلات، لم نفوّت فرصة سؤال غريّب عن شعوره عند وصوله لأول مليون مشاهدة في مسيرته. ما إن طرحنا على الفنان هذا السؤال حتى شقّت الابتسامة وجهه، مجيبًا "فرحة غير طبيعية .. كنت في الجنوب وكنت أترقّب هذا المليون .. ما نمت هذاك اليوم لمّا شفته مع الصباح". من الجدير بالذكر أن هذا الإنجاز قد رسّخ مكانة غريّب في عالم الشيلات، وعلاوةً على تطويره الشيلات ومنحها بعدّا موسيقيًا وفنيًا آخر، يذكر العديد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي دومًا أن غريّب آل مخلّص يعتبر رائدًا في هذا المجال، وذلك إلى جانب تميّز كلمات إصداراته بإحساس مفعم بالبساطة. كما عقّب على ذلك عبر لقائه معنا بأنه دائمًا ما يركّز في اختيار الكلمات المفهومة والبسيطة حتى يضمن تلقّي قاعدة جماهيرية أكبر لها.
يتميّز كل فنان بلون وثيمات خاصة في الموسيقى والكلمات، وهذا ما لاحظناه على غريّب حيث تجسّد أشهر شيلاته "خيبة" و"البعد موتي" وغيرها مشاعر الفراق والمعاناة بعد الوداع. أكّد غريّب أثناء المقابلة على ذلك بقوله "أكثر ما يعجبني اللحن والهدوء في الأعمال الحزينة"، كما تطرّق عدة مرات لإعجابه بأعمال الفنان خالد بن عبدالرحمن منذ صغره. جرّ هذا التصريح سؤالًا من بعده"هل حياتك حزينة؟" والذي أجاب عليه الفنان "لا ولله الحمد .. الله يبعد الحزن إن شاء الله عننا وعنكم، لكن المود الحزين يعجبني أكثر من أي شيء ثاني".
يسود الاعتقاد عند شريحة كبيرة من الجمهور أن الشيلات متعلّقة بمناسبات خاصّة، أو أن مستمعيها من الخليج فقط، لكن غريّب كشف لنا بأن الشيلات تُلقى في مختلف المناسبات والأجواء، كما أن نطاق متابعيها ومحبّيها يتعدّى الخليج والعالم العربي حتى. استرسلنا مع غريّب في الحديث عن أجواء الشيلات، فمنها شيلات العتاب والحزن، وشيلات مُخصصة لمزايين الإبل، وشيلات الفرح والتهنئة كتلك التي تقدّم بحفلات الزفاف، كما تعتبر الشيلات القِبلية شهيرة حيث يتم أداؤها ضمن مناسبات عائلية لتعبّر عن المديح والتّفاخر. أمّا فيما يخص مستمعي الشيلات، ذكر الفنان أن لديه قاعدة جماهيرية كبيرة من جنوب آسيا مثل الهند وجنوب شرق آسيا مثل إندونيسيا، مما يؤكّد على أنها لا تنحصر على الخليج فقط.
يُبرهن نجاح فناني الشيلات من شريحة الشباب مثل غريب آل مخلّص على أن هذا الفن ليس مجرد ظاهرة مؤقتة ستندثر، بل هو في واقع الأمر في تطور مستمر وصعود دائم، مستقطبًا جمهورًا أوسع يومًا بعد يوم مع نجاحات متتالية ومستمرة، توثقها أرقام الاستماع على منصات البث المختلفة.