في حفل جمع محبي الأوبرا من كل صوب، قدَّم التينور الإيطالي آندريا بوتشيللي أداءً ساحرًا في حفل ضمن ليالي السعديات في أبوظبي الشهر الماضي، ضمن جولة عالمية يحتفي فيها هذا العام بالذكرى الثلاثين على بدء مسيرته الفنية. قُسِّم الحفل إلى جزئين، قدَّم خلاله بوتشيللي مقطوعات شهيرة لمؤلفين موسيقيين كفيردي وجياكومو بوتشيني وخواكين رودريغو. شاركت في الأداء إلى جانبه السوبرانو سيرينا غامبيروني، بالإضافة إلى موسيقيين آخرين، بينهم عازفة الكمان روساندا بانفيلي ومغنية البوب الأمريكية بيا توسكانو، فيما قاد الحفل المايسترو كارلو بيرنيني. ثلاث مراتٍ همّ آندريا بوتشيلي بتوديع الجمهور ومغادرة خشبة المسرح، لتعود به تهليلات الحضور وتصفيقاتهم لتقديم أغنية أخيرة. تعلُّق جمهوره به يأتي بعد سنوات طويلة قدَّم لهم فيها ما افتقدوه في مجمل المشهد الفني الأوبرالي، بغياب عمالقة هذا اللون الموسيقي مثل لوتشيانو بافاروتي، والذي يعتبر بوتشيلي لقاءه به من المحطات الأهم في مسيرته المهنية، كما روى لبيلبورد عربية.
"مما لا شك فيه أن لقائي مع لوتشيانو بافاروتي، وهوصديق ومعلم، كان ذا أهمية كبيرة فنصيحته التقنية كانت ضرورية لتحقيقي الوعي الكامل بالأداة الصوتية واستخدام إمكاناتها إلى أقصى حد. علاوة على ذلك، ساهم إحسانه وتقديره المعلن تجاهي في انطلاق مسيرتي المهنية." هكذا تذكر بوتشيلي صديقه الغائب، قبل أن يأخذنا معه في رحلة بالذكريات، إلى تلك الأقرب له عبر عقود من العطاء الفني. يقول بوتشيللي: "أتذكر، بعاطفة خاصة، أول ظهور لي في المتروبوليتان في نيويورك، ولكن حدثًا جميلًا جدًا كان ذا شعبية في المدينة نفسها، الحفل الذي قدمته في عام 2011 في سنترال بارك... في الحقيقة، غنيت ضمن مواقع مميزة جدًا، من الكوليسيوم إلى الأهرامات، من الكرملين إلى المدينة المحرمة، وكذلك خلال أحداث مصورة حول العالم" ويتابع: "لكن إجابتي الأكثر صدقًا، هي أنني في كل مرة أواجه فيها خشبة المسرح، أينما كانت، أختبرها بنفس الشدة والتخوف والفرح، فتصبح تلك اللحظة الأهم في مسيرتي."
وهذا ما شعره لحظة لقائه مع جمهور أبوظبي تلك الليلة، في حفله السادس في العاصمة الإماراتية، التي لازالت تجذبه للعودة إليها وإلى جمهورها عامًا بعد عام: "بعد مسيرة مهنية استمرت ثلاثين عامًا، يمكنني أن أسمح لنفسي باختيار، أو على الأقل التماس، وجهات حفلاتي الموسيقية: ثابت التواجد في دولة الإمارات العربية المتحدة أفضل من أي اعتبار آخر العلاقة التي أحافظ عليها مع هذه الأرض غير العادية وجمهورها،" ويتابع: "منذ ذلك الحين، أعتقد الآن منذ حوالي خمسة عشر عامًا، كان لي الفرصة للتعرف المباشر عليها، لقد تمكنت من فهم جمالها، وتقاربها الشعوري، وثقافتها غير العادية والراقية. أبوظبي مكان ساحر وحيوي، ومفترق طرق حقيقي لشتى الثقافات فهي مدينة عظيمة تتناغم فيها التقاليد العريقة مع الابتكار. عاصمة أشعر فيها دائمًا بأنني محاط بالمودة وأعود إليها بسرور كبير، لهذا السبب فإنني في كل مرة أعتلي بها خشبة المسرح هنا، أشعر بالسعادة والحماس، برغبة ويقين مني باختبار إلى جانب عدد من الأصدقاء، مناسبة جديدة للاحتفال، والجمال والتفاؤل."
أينما حل، اعتاد بوتشيللي مشاركة حفله مع فنانين من شتى أنحاء العالم، كما فعل في العام 2016 مع بلقيس، وهي الفنانة العربية الوحيدة التي شاركته الغناء، في حفل أقيم في العاصمة الإماراتية أيضًا. ورغم أن الأداء لم يكن باللغة العربية، إلا أن تلك التجرية كانت أقرب ما وصل إليه بوتشيللي إلى الدمج بين الأوبرا الغربية والعربية. لكن عدم خوضه في المقطوعات العربية لا يعني بأنه بغريب عنها، كما كشف لنا: "لقد أتيحت لي الفرصة للاستماع إلى بعض مقطوعاتها... أنا مفتون بهم باستمرار، وكذلك معجب جدًا بأنها بالنسبة لي ذخيرة ساحرة، قادرة على الحركة وآسرة، وهي موسيقى تصل إلى أعمق أوتار الروح، بفضل خصائص غريبة لا يمكنني دومًا فك تشفيرها. في الواقع، أود أن أعرف عنها أكثر مما أفعل."
إدراك بوتشيلي الموسيقي الواسع وفهمه للأوبرا بشتى أطيافها وتنوع لغتها لربما كان السبب الأبرز في حفاظه على اللون الكلاسيكي حيًا لدى جمهور اليوم. إذ تمكن من العمل على تطوير صوته الخاص فيها عبر سنوات خبرته، حتى بقيت صامدة بتجدد مستمر في الأغاني التي يقدمها. "الموسيقى عالية الجودة، متجاوزةً الأنواع الموسيقية وحتى المناطق الجغرافية التي وُلدت فيها، تُحيي مشاعر خالدة وشديدة الأثر، بإمكانها أن تكسر أي حاجز عبر الثقافات والأجيال." هكذا وصف بوتشيلي استمرارية الأوبرا من منظوره الشخصي، ليكمل قائلاً: "أنا لا أخفي حقيقة أنني أعتبر نفسي محظوظًا لأنني ولدت في إيطاليا، حيث وُلدت الأوبرا منذ أكثر من أربعة قرون... لقد كان لي شرف الدراسة والاستماع وغناء الموسيقى الرائعة لزملاءٍ من موطني مثل بيليني ودونيزيتي وفيردي وبوتشيني وماسكاني وغيرهم الكثير. أنا أحب الأوبرا كونها شكل فني شائع في جوهره، دائما ما يكون حديثًا وفي متناول الجميع، هي موسيقى لا تشيخ".
هذا الشغف بالأوبرا انتقل من بوتشيللي إلى أبنائه عبر السنوات، إذ وصف الموسيقى سابقًا بأنها جزء لا يتجزأ من عائلته، وهذا ما بدا واضحًا من مشاركتهم له الغناء في مناسبات وحفلات عدة، فشاركته ابنته فيرجينيا جولةً غنائية في نهاية العام الماضي، فيما أصبح ابنه ماتيو يحيي حفلاتٍ مستقلة عن والده مؤخرًا. "هذا صحيح، أطفالي نشأوا على "الخبز والموسيقى"، بما في ذلك ابني الأكبر، وهو الآن مهندس طيران. هذا بسبب قناعتي بأن دراسة الموسيقى جزء مهم من تعليم الجميع، دعمٌ قيم لتنمية الروح البشرية." لكن هذه القناعة ارتبطت بشكل أساسي بحرصه على أن يتبع كل من أبنائه الثلاث طريقه الخاص، بل وهويته الخاصة إن تابعوا السيرعلى خطى والدهم ليمتهنوا الغناء. " أعتقد أنه أمر بالغ الأهمية أن يجد كل شخص طريقه الخاص ويحقق تطلعاته الخاصة، كي يستخدموا مواهبهم بشكل جيد، بغض النظر عن طموحاتنا كآباء، لدينا شرف وعبء تعليم أطفالنا، بأن نكون مثالاً لهم، بالتوافق مع الاتساق الأخلاقي. أما بالنسبة لكل شيء آخر، فهم يقررون."
لذا فإرث بوتشيلي ليس مرتبطًا بأحد سواه، أما في حديثه عن أبنائه، فيثني على مواهبهم واختياراتهم، دون فرض أي جزء من شخصيته عليهم. "فرجينيا لا تزال طفلة، ومن السابق لأوانه فهم ما سيكون طريقها. لكنها في تناغم، وهي موهوبة موسيقيًا، ويظهر ذلك في التقدم الذي تبديه في دراسة البيانو. أما بالنسبة لماتيو، فقد أراد في الواقع أن يسير على خطى والده وهو الآن بالغ وفنان محترف، يمتلك شخصيته الخاصة وأسلوبه المميز. هذا الأمر يسعدني، إن كان نسخة عن أبيه، فلن يكون للأمر أي معنى."






