لربما كان هذا المشروع من أكثر التجارب التي تحمسنا لصدورها في الفترة الماضية، بعدما لمع اسم زين وصوتها في السنوات الماضية، ووعدنا بموسيقى تعكس تجربة جيلها، وتحافظ في الوقت نفسه على الارتباط بالجذور والتراث.
ومع صدور ألبوم "عودة"، بدا أنه يضم بالفعل شيئًا للجميع، فمنذ المقدمة التي تحدد ثيمة الألبوم من علاقة الفنان الفلسطيني بهويته واستحالة الانسلاخ عنها، وصولًا إلى الأغاني التي تبدو أكثر عاطفية أو خفة، يصعب أن تنهي الاستماع الأول دون تفضيلات شخصية.
في الوقت نفسه، تشعرنا بعض الأغاني أنه كان بوسعها أن تحقق مستويات أعلى بكثير من الإتقان، سواء في التنفيذ الموسيقي أو صياغة الكلمات، أو حتى أداء زين. وكأنها تبدأ مع وعد وتنتهي دون أن تحققه. في بعض المنعطفات كنا نشعر أن الإنتاج الموسيقي كان صاخبًا بعض الشيء، حتى طغى على صوت زين الذي كنا نفضل لو بقي البطل الرئيسي.
لكن وفي المحصلة النهائية، يحتسب لزين ولصناع الألبوم جميعًا، من ناصر البشير إلى يزن الروسان وراتشوبر وغيرهم، الجرأة والتجريب في مساحات جديدة عبر 13 أغنية، وعملهم الجماعي لتقديم عمل متكامل له خصوصيته ويختلف عن السائد والتجاري، ليكون ألبوم "عودة" المشروع الذي يبروز حضور زين بجدية، ويحمسنا للقادم منها.
فيما يلي، رتب فريقنا أغاني الألبوم بحسب تفضيلاتهم الشخصية، من الأضعف للأقوى:
حرر عقلك
لا نحكم هنا على أغنية، فمقدمة الألبوم هي دقيقتان محكية، تتلو فيها زين خطابًا مطولًا، نستنتج أنه رسالة منها إلى جدّها، تؤكد عبرها أن الأجيال المتعاقبة من الفلسطينيين ستستمر أبدًا بحمل هويتها كغاية الوجود، وفي حالة الزين، كغاية الفن. ترسي هذه المقدمة المزاج العام للألبوم وثيمته ومواضيعه، وتبدأ صياغته بحيث تبدأ كل أغنية من حيث تنتهي سابقتها.
يما
يأتي صوت زين في أغنية "يما" أشبه بالهمس، منسابًا برقة تعبر عن امتنانها العميق لوالدتها وهي تردد: "ياما انتي المقوى / ياما انتي روحك روحي" في رسالة شكر موجهة إلى السند الأول في حياتها، الأم التي كانت إلى جوارها في كل الأوقات. ورغم قصر الأغنية نسبيًا فإنها تحمل طابعًا شخصيًا دافئًا يجعلها صالحة لأن تُقدم في مناسبات مثل عيد الأم، إلا أنها بدت -من حيث البنية والسردية- أقرب إلى لحظة خارجية عن السياق العام للألبوم، كما بدت تعابيرها مستهلكة أو خشبية بعض الشيء وتختلف عن الأسلوب الانسيابي في باقي الأغاني.
6 الصبح
الإشارة في العنوان -بقصد أو دون قصد- لأغنية حسين الجسمي المصرية الشهيرة "6 الصبح" يجذبنا للأغنية، ويمهد لنا لمقطع بايو باللهجة المصرية. لكن وكونها التعاون الغنائي الوحيد في الألبوم الطويل نسبيًا، نجد أنفسنا نتسائل عن السبب خلف تقديم هذا الدويتو، فنشعر أن الصداقة بين زين وبايو خلف الكواليس هي المبرر الوحيد لهذه الأغنية العاطفية المكتوبة على عجل، والتي تخرجنا لدقيقتين قصيرتين من الروح العامة للألبوم.
كله لينا
قدمت زين في أغنية "كله لينا" تحية مؤثرة إلى الشاعر الراحل محمود درويش، مستعينة بعينة صوتية له وهو يلقي قصيدته الشهيرة "على هذه الأرض". الأغنية شديدة الخصوصية تحتفي من خلالها زين بجذورها الفلسطينية وتوجه تحية صادقة لأبناء وطنها في عمل تتقاطع فيه العاطفة بالهوية.
امتلأت الأغنية بإيقاعات نابضة وصاخبة وزغاريد تُختتم بها كما لو كانت احتفالية بانتصار الانتماء، ما أضفى عليها طاقة مبهجة ومؤثرة في آن واحد. ورغم ثراء الفكرة الأصلية وعمقها الإنساني إلا أن كثافة العناصر الموسيقية، وتعدد الأفكار داخل الأغنية جعلها تبدو في بعض اللحظات مزدحمة أكثر من اللازم، وكأنها تتأرجح بين الرسالة الشعرية والتعبير الاحتفالي دون أن تستقر تمامًا في أحدهما.
يوم ورا يوم
أغنية أخرى تقتبس عنوانها من أغنية بوب شهيرة فتذكرنا باسم الدويتو الذي جمع سميرة سعيد وشاب مامي قبل عقدين من الزمن. كما أنها جاءت تحت عنوان ثاني OCD، المصطلح الذي بدا مقحمًا ضمن كلمات الأغنية لأسباب نجهلها.
وكما حال الأغنية السابقة، بدت يوم ورا يوم مزدحمة، فأسلوب الإنتاج يشعرنا أنها أكثر من أغنية تم وصلها ببعضها للحصول على النتيجة النهائية.
قرب مني
قرب مني" تبدو كأغنية الحلم في ألبوم "عودة" الذي يتراوح بين الواقع والأحلام. تبدأ الأغنية بخطوة مترددة: "ماشيين لبعيد، طريقنا طويل/ ولا عارفين لوين رايحين". وكأنها رحلة عبثية بلا خريطة، البوصلة الوحيدة فيها هو الحب، الذي يصبح نفسه طريقًا ضبابيًا لا يُكشف نهايته.
الكلمات تتعثر وتضيع مع السرد، لكنها تجد خلاصها عند التحول لصيغة الأمر، لتطلب: "قرب مني"؛ الكلمات التي تخرج بصوت فيه رجاء، في طبقة صوت ما بين الهمس والاعتراف. وتداعي الكلمات عاطفيًا يوصلها بنهاية الطريق للتمسك بالحلم على حساب الواقع، وتحويله من خيال فردي إلى جماعي: "مش لحالي بحلم/ لا تصحيني".
صوت الساكسفون الذي يتخلل الأغنية ويختتمها يبدو كمفاجأة سارة تصاحب الأغنية الرقيقة وتغلفها بصوت العزف الحي. ولعل المفاجأة الأكبر هنا هي أن سانت ليفانت هو عازف الساكسفون الذي نسمعه.
جديد
لعل "جديد" هي الأغنية الأكثر حدةً في الألبوم؛ من مقدمتها المندفعة حتى الآوترو الطويل الذي يتخلله تحولات موسيقية حادة، تتداخل بها الأصوات المثقلة بالمؤثرات الصوتية حتى تصبح همهمات غير مفهومة.
في هذه الأغنية تبدو زين بصورة مغايرة: أكثر مواجهة وأكثر جرأة. الكلمات تأتي كسيل من الرفض والقطيعة: "ما بيعنيلي شو بتحكيلي ومن الكلام أنا مليت/ ولو بتسمحلي لا تشرحلي ولا حرف أكثر من هيك". لا مساحة للتأويل ولا رغبة في التبرير؛ فصوتها يأتي ليعلن عن استقلاله التام، بينما تتردد في الخلفية جملة تكاد تتحول إلى هاجس جماعي: "خايف مني أنا".
ليا
تبدأ "ليا" بجملة متكررة على لحن رتيب: "مفكرة إنك ليا"/ ليا ليا ليا". قد لا تكون البداية جذابة، لكنها تبني منذ اللحظة الأولى السياق العاطفي، مع تكرار الفكرة حتى تصبح مألوفة للغاية وتطالبنا بتكرار الاستماع.
بعد ذلك ينفتح النص على السرد: "ياما حكينا وما لقينا"، لتغني زين بإيقاع أسرع يكسر الرتابة، وتشحن الأغنية بالحكايات المتراكمة. وتظل الشحنة حالية حتى عندما يهدأ الإيقاع وتبوح زين عن أمنياتها: "آه لو ألاقي عبارة/ أو ألاقي شرارة"؛ أماني يائسة تأتي بعد الإرهاق من الدوران بذات الدوامة.
أصلي أنا
تقدم زين هنا التصريح الأقوى والأكثر وضوحًا عبر الألبوم، والذي سبق صدور الألبوم مصحوبًا بالمقدمة "حرر عقلك" ليكمّلا بعضهما في الرسالة فنسمعها تغني جامعة القوة والرقة في أدائها: "ع اللي ضاع من عمري وأنا أخبيها من كل عين دوارة/ أسيرة بدربٍ مرسوم بخطى مكارة/ يا معذرة يا أنا، ضليت ونورك ضل يحميني/ إنتي أصل الأصل وأصلي أنا فلسطيني".
لكن نقطة القوة كانت في تكامل باقي العناصر الموسيقية والبصرية مع هذه الرسالة. الإنتاج الموسيقي الذي وضعته زين بالاشتراك مع ناصر البشير، نسج من تفاصيل الأغاني والموسيقى التراثية خيوطًا تشابكت بإحكام مع الصوت الإلكتروني. أما الفيديو كليب الذي أخرجه فريد مالكي للأغنية فكان قصيدة بصرية تؤدي التحية لجذور زين وحاضرها، فتقدم الفنانة الشابة بأبهى صورة قد تظهر بها.
بالي
منذ أكثر من عام أطلقت زين أغنيتها المنفردة "بالي" والتي عادت لتضمها لاحقًا إلى ألبومها الأول "عودة" لتشكل واحدة من أكثر محطاته تأثيرًا وصدقًا. في هذه الأغنية تنكشف ملامح التوهان والتخبط والسوداوية التي تتقاطع مع أسئلة وجودية لا تنتهي، لتقدم من خلالها زين تجربة فنية وإنسانية عميقة. أدت الأغنية بإحساس عال وصدق لافت، جعل المستمع يلمس انفعالاتها ويتقاسم معها ثقل المشاعر في كل جملة تغنيها
حلم/ حقيقة
في "حلم/ حقيقة"، تستعير زين من هاملت تساؤله الوجودي: "أكون أو لا أكون"، لكنها تُنزله من علياء الفلسفة إلى أرضها اليومية، حيث يصبح السؤال تحدّيًا للبقاء والاستمرار كامرأة فلسطينية تواجه تحديات ما بين الفضائين الخاص والعام.
ثيمة التردد في مسرحية شكسبير تنساب في تفاصيل الأغنية وتعيد زين تشكيلها بسردها وتساؤلاتها التي تتأرجح بين الحلم والحقيقة: "وأنا بين الحياة وبين الخيال أختار".
تغني زين عن الهواجس والتساؤلات بصوت خافت، يوشك أن ينكسر، تشير إلى وحدتها في فضاء خانق، محاصر بعيون تترصدها. لكن وسط هذا الانكسار، ينبثق صوت آخر منها، أكثر قوة، يأتي كهتاف يشجعها: "يلا يلا حبيبي"، كأنها تخاطب ذاتها لتحث نفسها على الاستمرار. وتُختم الأغنية باقتباس بصوت محمود درويش، وهو يقول جملته الأيقونية عن الأمل: "على هذه الأرض ما يستحق الحياة".
حلوة
أغنية "حلوة" كتبتها زين بمشاركة ناصر البشير ويزن الروسان، وكانت قد أطلقتها في يوليو الماضي كأغنية منفردة مرفقة بفيديو كليب غني بالرمزيات، لكن يبدو أنها كانت جزءًا من خطة الألبوم منذ البداية. وجاءت كلمات الأغنية مفتوحة على أكثر من تأويل، إذ يمكن فهمها كرسالة دعم وتمكين للنساء عمومًا، أو كتعبير عن الحب وانتماء لوطنها.
تعلق الأغنية في الرأس مباشرةً بعد أول استماع، ففي إنتاجها الموسيقي الذي وضعه تامر النبر وعمر صوالحة تأثيرات صوتية يمكننا القول أنها لاتينية، لكنها في الواقع مُخرجة من سياقها ليعاد توظيفها من جديد بأسلوب جذاب. لكنها لم تكن لتحظى بنفس التأثير في المستمع دون صدورها مع الفيديو المشّع الذي أخرجه إدغار إستيفز وبولا أوسا، ليكون زاخرًا بالرمزيات والرقصات والحضور الغالب للطبيعة والمشاهد الخارجية. (لكن الإخراج المتقن لا يمنع أن الفيديو بدا حياديًا وعالمي الرؤية بالمقارنة مع كليب "أصلي أنا" الذي شعرنا أنه يشبه زين أكثر).
سعر الحب
كما هو الحال في أغاني ألبوم زين، نستطيع أن نميز بين صوتين متداخلين: صوت أول رومانسي، دافئ، يهب من عمق الذاكرة وتفوح منه رائحة الحنين؛ وصوت آخر يأتي كتعليق، واقعيّ في منطقه، مباشر في خطابه، كأنه يوقظ الحلم من غفوته.
في "سعر الحب" يتجلى هذا التمايز بأبهى أشكاله. فالصوت الأول يتكئ على لحن فولكلوري شامي، لتغني زين عن الهوى والعشق على لحن جملة "بالله يا مجرى المي" من الأغنية التراثية "فوق إلنا خل"، بطبقة صوتها الأثيرية الأكثر رومانسية، المحاطة بمؤثرات صوتية، تُعدّ ذروة ما في الألبوم من إتقان تقني.
ثم ينهض الصوت الثاني، لا ليكسر سحر الأول بل ليعيد توجيهه، ليحكي عن رحلة البحث والمعاناة، بلغة أقرب إلى الأرض والواقع، حتى يبلغ الذروة حين يتجرد من الرومانسية وبنحدر للمادية مع تسعير الحب.
اشترك في كتابة هذه القائمة كل من نورهان أبو زيد وهلا مصطفى وعمر بقبوق