تأسست الإذاعة اللبنانية في عهد الانتداب الفرنسي سنة ١٩٣٨ تحت اسم إذاعة الشرق، وانتقلت عام ١٩٤٦ بعد الاستقلال من الإدارة الفرنسية إلى الدولة اللبنانية. تطور دور الإذاعة من الاكتفاء ببث الاسطوانات الموسيقية وأغاني الأفلام السينمائية، وتحولت إلى مركز لاكتشاف المواهب الجديدة وإطلاقها في فترة الخمسينيات والستينيات، ومختبر لمختلف التجارب الحديثة التي ساهمت في بناء هوية الأغنية اللبنانية.
بدأت الأغنية اللبنانية بين الثلاثينيات والأربعينيات تأخذ شكلها العربي المشرقي المتميز والمستقل عن الأغنية المصرية التي كانت مسيطرة آنذاك، وسُمعت للمرة الأولى على إذاعة الشرق وغيرها من الإذاعات مثل إذاعة الشرق الأدنى في يافا. عُرفت هذه المرحلة بمرحلة التأسيس مع فنانين أخذوا على عاتقهم وضع شكل غنائي محلي مستقل، مثل عمر الزعني مؤسس الأغنية الاجتماعية والمونولوج في أغنيات مثل بيروت، إلى جانب سامي صيداوي مؤسس الأغنية العاطفية الشعبية في أعمال مثل يا جارحة قلبي وميل يا غزيل اللتان قدمتهما نجاح سلام في نهاية الأربعينيات، وغيرهم من الملحنين مثل نقولا المني وفيلمون وهبي.
بدأت الإذاعة اللبنانية عملها الجاد على بناء هوية الأغنية اللبنانية بعد جيل المؤسسين، وحسب مذكرات الملحن حليم الرومي الذي شغل منصب رئيس دائرة الموسيقى في الإذاعة في بداية الخمسينيات، فإن الحكومة اللبنانية أصدرت قرارًا وقتها بإنتاج الشعر الغنائي اللبناني حصرًا دون غيره من اللهجات. أجرت الإذاعة تجارب صوتية لاكتشاف عدد من الأصوات والمواهب، مما سمح بظهور جيل جديد من المطربين والمطربات. بدأت أسماء كبيرة مشوارها مثل فيروز وسميرة توفيق، واختفت أسماء أخرى لأسباب مختلفة مثل نونا الهنا وحنان.
بدأت الألحان اللبنانية تأخذ حقها في الإنتاج، بعدما كان التركيز على جمال الصوت ومهارة التطريب. انفتحت الإذاعة على التجارب اللحنية الجديدة، في سياق عملها على تطوير اللحن اللبناني وتحديثه، وفتحت بابها لكل الملحنين، كان أبرزهم فيلمون وهبي وعفيف رضوان وانضم إليهم عاصي ومنصور الرحباني وحسن غندور، كما التحق بعض الشعراء العاميين مثل عبد الجليل وهبي الذي برز كشاعر مؤسس. أطلقت الإذاعة مباراة استفتاء عام لاختيار أجمل صوتين على أن تكون الأغاني المقدمة أشعارًا أو زجل.
اسنقبل مبنى الإذاعة المتواضع في منطقة زقاق البلاط في بيروت عددًا كبيرًا من الفنانين الصاعدين، قبل أن تنتقل إلى مبنى جديد بعدد استديوهات أكبر وبتقنيات أعلى في منطقة الصنائع عام ١٩٥٨. بعد اكتمال العناصر الفنية بدأت عملية الإنتاج الكبيرة، فقدمت الإذاعة في هذه الفترة أنواعًا مختلفة من الأغاني الراقصة بتوزيع آلاتي وصوتي حديث، والقصائد الملحنة على المقامات الشرقية، وبدأت تخرج الاسكتشات الغنائية، والأغاني التراثية المجدَّدَة، وأغاني المارشات العسكرية.
تحولت الإذاعة اللبنانية بعد هذه السنوات إلى الذاكرة السمعية للبنان، إذ تعتبر مكتبتها الموسيقية من أثرى وأكبر المكتبات في المنطقة وتحمل أرشيفًا ضخمًا من الاسطوانات الموسيقية التي حملت قصة بناء هوية الأغنية اللبنانية.






