خلال عام 2025، لم يكن اسم بيسان إسماعيل حاضرًا في المشهد الموسيقي العربي بوصفه نجاحًا عابرًا أو هيت وليد اللحظة، بل كحالة أحدثت انقسامًا واضحًا في الآراء، وفرضت نفسها كواحدة من أكثر محطات العام تأثيرًا في النقاش حول الجيل الجديد من الفنانين. بأغنية تجاوزت حاجز الـ 300 مليون استماع على يوتيوب وحده، وتصدّرت قائمة بيلبورد عربية هوت 100 لأسابيع طويلة، أعلنت بيسان حضورها بثقة كمنافسة حقيقية على الساحة، لا كظاهرة رقمية عابرة. من بعدها، بدأت أولى حفلاتها الموسيقية الخاصة من بيروت إلى الرياض، واتسعت دائرة تعاوناتها، ليترسخ حضورها الفني خارج الشاشة، وعلى المسرح.
لكن المفارقة التي لا يمكن تجاهلها أن كل هذا تحقق لفنانة لم تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها، تمتلك عشرات ملايين المتابعين على منصات التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فإن الحقيقة الأعمق هي أن بيسان إسماعيل لم تبدأ عام 2025، ولم تبدأ مع نجاح أغنية "خطية" مع فؤاد جنيد. الواقع أن هذا الصوت كان يبحث عن مكانه في هذا العالم منذ وقت أبعد بكثير.
قبل تصدّر القوائم، كانت بيسان قد دخلت قائمة هوت 100 في عام 2024 بأغانٍ مثل "العشر كفوف"، و"الحربين"، في مسار متدرّج مهّد لما سيأتي لاحقًا. لم تكن تلك الأغاني انفجارات جماهيرية، لكنها شكّلت اختبارًا مبكرًا للصوت والاتجاه، وبنت أرضية واضحة لهوية موسيقية استكملتها بيسان بخطة ثابتة وأسلوب متماسك خلال العامين الأخيرين، وصولًا إلى تتويج هذا المسار في 2025.
للبحث في قصة بيسان، لا بد من العودة سنوات إلى الوراء، إلى طفلة في الرابعة عشرة من عمرها، ظهر صوتها بالصدفة في فيديو نُشر عبر حساب والدتها على وسائل التواصل الاجتماعي، ليحصد خلال وقت قصير ملايين المشاهدات. كانت تلك اللحظة بداية وعيها مبكرًا بقوة الأدوات المتاحة أمامها، وبقدرتها على أن تجعل صوتها مسموعًا، حتى قبل أن يكتمل أو يتشكل فنيًا. في الفترة نفسها، بدأت بيسان دافع التسلية، صناعة محتوى كوميدي على يوتيوب، ومعه كانت تشارك جمهورها محاولاتها الأولى في الغناء، بعفوية كاملة، ومن دون أي تدريب احترافي.
لكن هذا الانكشاف المبكر، الذي جعلها كتابًا مفتوحًا أمام الجمهور، حمل معه ثمنًا مضاعفًا. ففي سن السابعة عشرة، ومع أول محاولة جدية لدخول عالم الغناء، اصطدمت بواقع قانوني قيّد صوتها ومنعها من الغناء علنًا لسنوات، إثر تعجلها في التعاقد مع شركة إنتاج فني في سن صغيرة ودون خبرة كافية بالصناعة الموسيقية. عن تلك المرحلة تقول: "كانت أول ضربة إلي. فأول ضربة دايمًا بتخليكي يا تكملي يا تيأسي… الحمد لله كان في تشجيع كبير من ماما وأهلي، وقالوا لي بتصير، وبتجيكي فرص أحلى".
دام هذا الصمت القسري قرابة خمس سنوات، انسحبت خلالها من برنامج “بوليفارد المواهب” في السعودية، في لحظة كان يمكن أن تشكّل نقطة انطلاق مبكرة لمسيرتها الفنية.
خلال تلك السنوات، لم تختفِ بيسان عن المشهد، بل أعادت تموضعها. انشغلت أكثر بصناعة المحتوى، وبنت قاعدة جماهيرية واسعة، وهي خطوة ستتحول لاحقًا إلى نقطة خلاف حولها. فمع عودتها للغناء، وبدء تقديم نفسها كفنانة ناضجة، بدا أن العالم يرفض أخذها بجدية، لا بسبب صوتها، بل بسبب ذاكرته عنها. وكأن نجاحها كصانعة محتوى، واستقلالها المادي المبكر، أزعج البعض ودفعهم للتشكيك في أحقيتها بالانتقال من خط مهني إلى آخر.
لكن بيسان ترى الأمر من زاوية مختلفة تمامًا، فتخبرنا: "كل شي صار بحياتي لسبب. يمكن لو ما دخلت كإنفلونسر ما كنت أنا هون هلأ… خمس سنين ما كنت أقدر غني، فأكيد ما رح أقعد بالبيت واستنى. بنيت ناس بتحبني، وكل الناس كانت تعرف إن حلمي الغناء". بالنسبة لها، لم تكن صناعة المحتوى بديلًا عن الفن، بل قناة اضطرارية وواعية للاستمرار، وللحفاظ على الصلة مع جمهور عرف قصتها قبل أن يسمع صوتها مكتملًا.
الغريب في هذه الرحلة أن بيسان، رغم حضورها اليومي على السوشيال ميديا، اختارت الصمت عندما ارتفعت أصوات الانتقاد. في مقابلة الغلاف، وعند سؤالها إن كانت شعرت بالحاجة للدفاع عن نفسها، لم تستخدم الكلمات. اكتفت بهز كتفيها ورأسها نفيًا، مجيبةً باختصار: "أكبر رد هو النجاح.. أقوى رد هو عدم الرد".
هذا الثبات، وهذه القدرة على الصمت وترك العمل يتكفّل بالرد، لم يأتيا من فراغ. فصوت الانتقادات الذي واجهته بيسان في السنوات الأخيرة، على حدّته، يبقى من أبسط التحديات التي اضطرت لمواجهتها في حياتها. لذلك، لا يمكن مقاربة حكايتها أو فهم هذا الإصرار من دون العودة إلى جذورها الأولى، حين كانت مازالت طفلة تكبر في سوريا، في بلد بدأ ينهار من حولها مع اندلاع الحرب، وينهار عالمها معه.
في سن التاسعة فقط، فقدت بيسان والدها فجأة. معلم اللغة الإنجليزية، خرج صباحًا إلى عمله فلم يعد، ولم يتمكن أحد من معرفة أي خبر عنه بعدها. وفيما تغص البلاد اليوم بملفات المفقودين والمخفيين قسرًا، تتخبط الشابة حتى اليوم بين الأسباب والوقائع. وبعد مرور 13 عامًا، مازالت تطرق كل الأبواب باستمرار، على أمل أن تتوصل إلى خبر أو حقيقة تثلج صدرها حول مصيره.
بعد سنوات معدودة على واقعة الاختفاء، وجدت بيسان نفسها مع والدتها وشقيقها الأصغر في رحلة هجرة محفوفة بالمخاطر، من لبنان إلى تركيا، ثم عبر البحر وصولًا إلى ألمانيا بحثًا عن برّ أمان وفرصة حياة جديدة. لم تكن هذه التجربة مجرّد خلفية شخصية بعيدة، بل جزءًا من تكوينها اليومي، ومن علاقتها المبكرة بالعالم وبالجمهور الذي تابعها تكبر أمامه. فبين الفقد، والانتقال القسري، وبناء حياة جديدة من الصفر، تشكّل لدى بيسان وعي مبكر بالهشاشة، وبأهمية التشبث بالحلم، أيًّا كان الثمن. "في ناس كانت معي من صغري وكانت معي بكل خطوة كنت عم مر فيها بحياتي. واستنوني. ولما غنيت أنا شفت كتير عالم تأثرت بالموضوع" تخبرنا الفنانة الشابة.
حين تنظر إلى مسيرة بيسان إسماعيل اليوم، لا ترى قصة نجاح سريع بقدر ما ترى إصرارًا طويل النفس، وعنادًا مدفوعًا بإيمان عميق بحلم الغناء. هي ليست فنانة تبحث عن تصديق الآخرين، بل صوتًا يطلب مساحة عادلة ليُسمَع بشروطه. سواء أحبّه العالم أو رفضه، هناك شيء في هذا السعي، وفي هذا الحضور الواثق، يجعل من بيسان إسماعيل أكثر من مجرد اسم صاعد… بل صوتًا اختار أن يقف في مواجهة العالم، ويغني.

