"أنا إنسانة جبانة" تعلن رحمة رياض ثم تضحك: "يعني أحب المخاطرة بس ما أحب أخاطر بشغلي". الاختيارات تربك النجمة الشابة. النجومية حققتها في عشرينياتها، وعرفت بعدها كيف تقدم هيتات متكررة. لكن القادم يدخلها في حيرة، ويبطئ إيقاعها. هل تعاند وتبقى متمسكة بهوية قدمتها للجمهور عن سابق إصرار؟ أم تغامر قليلًا؟
في ضيعة قرنعون في لبنان، حيث الجبال تفتح ذراعيها للسماء، جلست بيلبورد عربية مع رحمة رياض، نجمة غلاف شهر يونيو 2025. المكان بدا وكأنه قد خرج من شريط سينمائي قديم: الأرائك والإكسسوارات الباهتة تنتمي لزمن آخر، والإطلالة على جبال لبنان في عمق المشهد تأخذنا بعيدًا عن إيقاع الحياة المتسارعة. في هذه اللوحة، دخلت رحمة رياض، برداء بني ومكياج بالكاد يُرى، وكأنها لا تريد أن تصنع مشهدًا، بل تريد أن تنتمي إليه.
كلماتها الأولى كانت عفوية كعادتها: "كل شيء Vintage أحبه". جملة عابرة، ربما قالتها وهي تتأمل تفاصيل المكان، لكنها بدت وكأنها تلخّص فلسفتها الفنية؛ رحمة رياض، كما اكتشفنا لاحقًا، لا تبحث عن الجديد والترند، بل عن الفن الذي يصمد ضد الزمن.
أغاني على نار هادئة
حين انتقلنا للحديث عن أحدث إصداراتها، "شي حلو"، قالت ببساطة: "هي مختلفة عن اللي أنا سويته من قبل." بدت وكأنها تخشى التغيير، ليس خوفًا، بل وفاءً لهوية فنية رسمتها بعناية. وصفت الأغنية بأنها تنتمي إلى لون المقسوم الشرقي، بكلمات عراقية، لكن بروح خفيفة، راقصة، وأشارت: "كنت مترددة أغنيها، لأنها مش من خطي الكلاسيكي أو الدرامي المعروف."
لكنها لم تتوقف لتخفي التردد، بل استرسلت بالكلام بصدق وكأنها تُكمل حوارًا بدأته مع نفسها قبل زمن. في صوتها، تلوّن الخوف بالحنين، فنشعر أنها تُبرّر لنفسها أولًا: "بس هذا اللون كان موجود بالأغاني العراقية.. الناس يمكن نسيته." كأنها وجدت في الماضي مخرجًا، وفي الذاكرة القديمة شرعية للخطوة الجديدة.
ترددها هذا، والحديث عنه بشفافية ومصداقية، غلب أي صورة نمطية كنا قد نربطها بشخصية الفنان الشابة. يحاول معظم النجوم الشباب عادةً ترك انطباع لدى الآخرين بأن كل شيء تحت السيطرة. ينفضون عن صورتهم أي ارتباك أو شك، ويؤكدون أن نجاحاتهم جاءت وستستمر بفعل تخطيطهم ورؤيتهم.
لكن رحمة رياض لا تكترث لهذه الصورة المثالية. في مخيلتها حلم مختلف وناضج للغاية، تتحدث عنه بعناد وإصرار كبيرين، وهو أمر آخر فاجأنا. فهي في النهاية النجمة الأبرز في الأغنية الشبابية العراقية اليوم. عرفها الجمهور بعد مشاركتها في برنامج المواهب ستار أكاديمي، وبقيت قريبة من قلوبهم بشخصية مرحة وعفوية، تملأ ضحكاتها ومزاحها الأجواء أينما حلت. ولربما تخيلنا أنها ستميل عبر السنوات لاسترضاء الجمهور وتوقعاتهم ومجاراة ترندات السوق. لكن تبين مع مرور الوقت أنها حددت بوصلتها الفنية بحزم: "أنا لا أتخلى عن طابعي الموسيقي لتلبية طلبات الجمهور".
الذوق لا يتغيّر
حتى حين تحدثت عن الألبوم الجديد الذي تعمل عليه، جاءت الإجابة حاسمة رغم هدوئها: "ما في مفاجآت." كأنها تضع حدًا واضحًا بين الفن الذي يُصنع ليُدهش للحظة، والفن الذي يُبنى ليعيش عمرًا طويلًا. وبدلًا من الحديث عن كواليس الألبوم والتعاونات وثيمات الأغاني، قادتنا رحمة رياض بعفويتها للحديث عن الأماني والأحلام: "أنا طول عمري من لما بلشت أغني، أو كان عندي حلم الغنا، كان عندي حلم إني أنا أكون متلي متل الفنانين القدامى، اللي كل ما تسمعي أغنيتهم اللي صرلها نازلة 50 سنة، تحسي توها نازلة والناس تسمعها".
وما إن اقترب الحديث من فكرة تغيّر الذوق العام، حتى قطعت رحمة رياض الطريق بسرعة: "الذوق ما بيتغيّر". قالتها دون تردد، وكأنها كانت تنتظر السؤال، أو اعتادت الرد عليه لكثرة ما تسمعه. أضافت: "الناس لليوم تسمع على تيك توك أغاني فيروز وأم كلثوم وعبد الحليم". فالجيل الجديد، برأيها، لم يفقد إحساسه بالجمال، بل فقط وُضِع وسط إيقاع متسارع لا يتيح له التأمل. "هذا الجيل يحب يسمع موسيقى مختلفة، بس بنفس الوقت هو اللي بيرجع يطلّع أغاني من 50 سنة ترند من جديد".
هذا التمسك بخط واضح وضعته لنفسها، لم يتعارض مع تحقيقها لنجاحات متتالية. تبدو مسيرتها عبر العقد الماضي حلم أي فنان شاب. في حوزتها العديد من الهيتات التي تجاوزت حاجز المئة مليون استماع على المنصات مثل "وعد مني" و"ماكو مني" و"الكوكب". أما ديو "مافي ليل" مع ناصيف زيتون العام الماضي، فتصدر قوائم بيلبورد عربية لأسابيع طويلة، وحقق لرحمة ولناصيف أول ترشيح ضمن جوائز بيلبورد عربية للموسيقى 2024 عن فئة أفضل ديو.
العائلة والأمومة وضريبة الفن
تحديات الاستمرارية والخيارات الفنية ليست الوحيدة في حياة رحمة رياض اليوم. قبل سنوات، شهد الجمهور قصة الحب التي جمعتها بالممثل العراقي/ الأمريكي ألكساندر علوم، والتي تكللت بالزواج وإنجاب ابنتهما الأولى عالية. الأمومة اليوم تلقي بأحمال إضافية على رحمة. نشاطها الفني بين الاستديو والحفلات، وحياة السفر والتنقل تشعرها بالذنب أحيانًا. ولما سألناها عمّا تحب فعله بعيدًا عن الفن، ردت وكأن الجواب لم يكن يحتاج التفكير: "أحب أقعد ويا بنتي."
العائلة لدى رحمة من أهم أركان استقرارها وتوازنها. تصف نفسها بالمحظوظة، فعائلتها الكبيرة تحيطها وتلعب دورًا في مسيرتها كذلك. تتوجه إليهم، طالبةً النصح، من زوجها وأمها وأخواتها، لكنها تسر إلينا أنها تأخذ النصيحة النهائية في الأمور المصيرية من زوج والدتها.
والآن.. ابنتها الصغيرة أصبحت حاضرة في وعيها الفني، لا كعائق بل كبوصلة. تقول: "حتى بنتي لما تكبر، أريدها تسمع موسيقى.. مش بس ترند يخلص بعد أسبوعين." كأنها تُغنّي اليوم للغد، للأذن التي ستأتي لاحقًا وتسمع، وتفهم.