لو جربتم يومًا ما أن تشغلوا أغنيتي "اسكاليلو" لأحمد منيب، و"ع المدينة" لمحمد منير على جهازين منفصلين بوقت واحد، فتسمعون مقطع من واحدة، ثم تتبعونه بمقطع من الأخرى، لشعرتم أن كلمات أغنية "ع المدينة" تنساب على لحن "اسكاليلو" كأنه مصنوع لها. ستشعرون بحالة الترحال والاغتراب، والإحباط من المدينة التي ظن منير أنها ستكون ملجأ له وبيتًا، فالبناء الإيقاعي الأساسي لـ "اسكاليلو"، والذي بني عليه بعدها توزيع "ع المدينة" الغربي المعتمد على إيقاع الجاز يعطي الإحساس نفسه بالترحال والحركة والاغتراب الذي يصعب الخروج منه.
ربما كانت تلك عبقرية أحمد منيب التي جعلت منه واحدًا من أكثر الرموز النوبية تأثيرًا في الثقافة التجارية للمشهد الموسيقي. فبالطبع تملك النوبة العديد من الأسماء المؤثرة التي استطاعت ترك بصمتها وإيصال صوتها للمستمعين المتأثرين بمركزية العاصمة مثل حمزة علاء الدين ومحمد وردي وبحر أبو جريشة، لكن جاذبية أحمد منيب كانت في قدرته على توظيف الإيقاع لخلق حكاية، وإحساس وانطباع له جاذبية خاصة تجعل المغنيين يريدون أن يسردوا جزءًا من حكاياتهم بألحانه.
اشتهر أحمد منيب كعازف عود في الخمسينيات، سواء بشكل خاص في الأفراح أو في التسجيلات الموسيقية المحلية، قبل أن تقرر الإذاعة المصرية أن تعطي مساحة للثقافة النوبية من خلال إذاعة وادي النيل، حيث كان من أهداف القيادة السياسية حينذاك أن تُعمق العلاقة مع الجنوب المصري متمثلًا في النوبة والسودان. حاول منيب ومحيي الدين شريف وعبد الفتاح والي استغلال هذا المشروع لتقديم موسيقى نوبية بتوزيعات حديثة مأخوذة من التراث الشفهي القديم والأحدث لأهل النوبة حينها. لكن هذا المشروع لم يكن كافيًا لطموحه، خاصة مع السيطرة المستتبة للتيار الموسيقي الكلاسيكي الشرقي على المشهد الموسيقي التجاري مع عمالقة الموسيقى العربية مثل أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ وغيرهم.
مع بداية السبعينيات، وانحسار موجة التخت الشرقي الخالص، والتي أتت نتيجة لثورة الكاسيت، انتقلت السلطة من مزاج الإذاعة لمزاج الشارع. بدأ حينها منيب في البحث عن التشكيلة الأمثل لمشروع مميز يستطيع فرض شخصية واضحة، وهو ما جعله ينتظر حتى نهاية السبعينيات، ليجد ضالته في الشاعر عبد الرحيم منصور، وشاب موهوب وموهبة صاعدة بقوة حينها اسمه محمد منير.
جاءت نقطة الانطلاق للثلاثي سويًا من ألبوم "علموني عينيكي "، تبعه ألبوم "شبابيك" ثم "اتكلمي"، ومثَّل انطلاقة نموذجية موسيقية لمشروع محمد منير. لكن علاقة منيب بمنير ذهبت أبعد من ذلك، فقد لحّن له ما يتعدى الأربعين أغنية أبرزهم "اتكلمي" و"افتح قلبك" و"الليلة يا سمرا" و"شجر الليمون" و"حدوتة مصرية" و"سهيرة ليالي" و"شبابيك" و"في دايرة الرحلة"، وغيرها. أسس منير عبر هذه الأغاني جزءًا من سيرته الذاتية وبيرسونته الفنية، وأكَّد فيها الطابع النوبي الذي ميزه وخلق الجزء الأكبر من أسطورته، بين المغترب المنطلق نحو العاصمة، الحزين أحيانًا، والمترقب في أحيان أخرى، الحماسي كثيرًا، والمتأمل دائمًا.
كانت مهارة منيب الأبرز هي قدرته على خلق أكثر من نظم إيقاعي سردي يعطي كل منها حالةً ترتبط بملامح الحكي الشعبي، ومن خلالها تتنوع الإيقاعات سواء من مقامات عالية أو منخفضة حسب التمبو والحالة الخاصة بكل أغنية، موجهة التوزيع الموسيقي. من أكثر المقامات التي كان يستعملها مقام كرد ونهاوند على السلم السباعي، مازجًا إياها بالإيقاعات الغربية التي كان أحبها منير وأغلب من تعاون معهم من موزعين أبرزهم هاني شنودة ويحيى خليل وفرقته، خاصة من جُنرا الجاز.
كذلك، وفي أغلب تعاونات منيب مع فنانين آخرين مثل علاء عبد الخالق في "الحب بحر" و"بناديلك" و"دلي"، أو حميد الشاعري في "أجيلك من ورا الأحزان"، أو هشام عباس في "من طفولتي" أو عمرو دياب في "يا طير يا متغرب"، بدت هذه التعاونات نابعة من رغبة هؤلاء الفنانين في سرد حكاية شديدة الذاتية بالنسبة لهم، فنجد هذه الأغاني متأثرةً بعناصر وإيقاعات الموسيقى النوبية، وكأنهم وجدوا فيها موسيقيَا ما يناسب الثيمات والمواضيع التي رغبوا بنقلها. تعاون منيب أيضًا مع حنان في "الحلو ساكت ليه"، ومنى عبد الغني في "حالي"، و حسن عبد الموجود في "نورنا"، و"ربك هو العالم"، كما تعاون معه علاء عبد الخالق لإعادة إنتاج أغنيته "الحب ليه صاحب".
لا يمكن كذلك تجاهل تراث أحمد منيب كمغني، وقد وثقت أغانيه في ستة البومات هي "حدوتة مصرية"، و"مشتاقين" الذي وزعه حميد الشاعري، و" يا عشرة" و"كان وكان" و"بلاد الدهب" و"راح أغني" و"قسمة ونصيب". صدر أربع منها كألبومات بعد وفاته تحت شركة إنتاج تسجيل باسم "منيب ساوند". ضمّت هذه الألبومات العديد من الأغاني النوبية الأصلية التي نُقلت ألحانها إلى أغاني أخرى بالعامية المصرية مثل "اسكاليلو" و"الله دانا" و"ارشدترنا" و "الوعد والمكتوب" و"يا وعدي عالأيام" و"فينك يا مشواري" و"صدقني يا صاحبي"، وقد قدَّم من الأخيرة عدة نسخ مع العديد من المغنيين الشباب، كان أبرزها النسخة مع محمد فؤاد.
حافظ منيب على توزيع أقرب للقالب النوبي، غلبت عليه إيقاعات الدفوف والطنبورة، والمؤثرات مثل التصفيق الحي، والكورس الجماعي الذكوري والأنثوي. فيما جاء صوته ذو البحة البسيطة مستقرًا ومضبوطًا مع الحركات الإيقاعية، متأثرًا بحساسية الملحن في ضبط النفس، الجنوبي الخالص بنطاق واسع.