في مثل هذا اليوم من عام 1923، رحل الموسيقار الكبير سيد درويش عن عمر لم يتجاوز 31 عاماً، لكن ما تركه من أثر ظل حيّاً طويلًا بعد وفاته. ألحانه عاشت أكثر من قرن، وواصلت إلهام أجيال متتابعة من الفنانين، لتؤكد أن عمر الإبداع لا يتأثر بمرور الزمن.
لم يكن سيد درويش هادماً للتقاليد كما ظن البعض، بل مجدداً حقيقياً. أخذ من التراث ما يناسبه، وأعاد تشكيله ببصمته الخاصة، خصوصاً في الموشحات والطقاطيق، حيث قدّم فناً سريع الإيقاع ومباشراً، بعيداً عن الإطالة والتكرار. امتلك رؤية سبّاقة للموسيقى العربية، وساعده على ذلك حفظه منذ صغره لمجموعة كبيرة من الموشحات، إلى جانب صوته الجميل الذي كان دائماً القاسم المشترك في أعماله.
صوت حكايات الناس
من القصص الطريفة القليلة التي عرفناها عن حياة سيد درويش في مطلع القرن الماضي، كانت أنه عمل لفترة كعامل بناء بسبب ضيق الحال، وكان يغني لزملائه أثناء الاستراحة. وحين لاحظ صاحب العمل أن غنائه يزيد من إنتاجية العمال، قرر أن يدفع له أجره مقابل الغناء فقط. هذه اللحظات البسيطة رسخت قربه من الناس ومنحت فنه صدقاً نادراً.
هذا القرب من الناس تجلّى بوضوح في طقاطيقه الوطنية، خاصة تحت الاحتلال البريطاني. ومن أبرزها طقطوقة "أهو ده اللي صار"، التي وُلدت من واقعة عاشها الشيخ محمد يونس القاضي حين أوقفه مفتش إنجليزي قبل ثورة 1919 وسخر منه قائلاً: بدلاً من المطالبة بخروج الاحتلال، اصنعوا الجبة والقفطان بأنفسكم. فردّ القاضي بعبارة ساخرة أصبحت لاحقاً مطلع الأغنية: تلوم عليا إزاي يا سيدنا؟ وخير بلادنا ما هوش بإيدنا…
حين روى القاضي القصة لسيد درويش، تحولت إلى أغنية ارتبطت بالثورة الشعبية، بل إن بعض نسخها الأولى حملت إشارة مباشرة إلى سعد زغلول: مصر يا أم العجايب، سعدك أصيل والخصم عايب. وبقيت هوية كاتب كلماتها مثار جدل بين من نسبها إلى القاضي ومن نسبها إلى بديع خيري، لكن عبقرية اللحن طغت على كل الخلافات، وظلت الطقطوقة مرتبطة دائماً باسم سيد درويش، الفنان الذي صنع موسيقى من نبض الشارع وأصوات الناس.
أصوات تناقلت "أهو ده اللي صار" عبر العقود
وطوال قرن من الزمن عاشت الأغنية عبر أصوات العديد من النجوم الذين أعادوا تقديمها في مراحل مختلفة من مسيرتهم الفنية، ومن أبرزهم:
فيروز
بصوتها الملائكي، قدمت أهو ده اللي صار للمرة الأولى في حفلها بمصر في منتصف الثمانينات، وكان الفنان زياد الرحباني هو صاحب فكرة تقديمها. كما غنت من تراث سيد درويش أغنيتي “زوروني كل سنة مرة” و”الحلوة دي”.
محمد محسن
غناها في بداياته الفنية، وما زال يقدمها في معظم حفلاته مثل حفله في لبنان عام 2014 بمشاركة الأوركسترا الوطنية اللبنانية.
علي الحجار
ارتبط صوته بهذه الأغنية لسنوات وقدمها بأسلوب مميز يُظهر قدراته الصوتية الفريدة.
آمال ماهر
صاحبة الصوت الطربي القوي قدمتها أكثر من مرة، نذكر منها غنائها على مسرح الظفرة عام 2009.
ناي البرغوثي
الفنانة وعازفة الفلوت، أدتها بعدة نسخ حية منها حفلها في البرتغال عام 2019 ضمن جوائز الآغا خان للموسيقى
هبة طوجي
طرحت نسخة خاصة بها عبر قناتها على يوتيوب عام 2017 بتوزيع موسيقي مختلف قليلًا من توقيع أسامة الرحباني.
حمزة نمرة
قدمها في مهرجان العلمين عام 2023 بمشاركة فرقة مسار إجباري في أداء جماعي مفاجئ ولافت.
كل هذه النسخ وغيرها الكثير تؤكد أن هذه الطقطوقة الصادقة ما زالت حية، وتلهم الفنانين والجمهور على حد سواء بعد أكثر من قرن على رحيل مبدعها.فرغم رحيل سيد درويش إلا أن فنه لا يزال حيا خالدًا في ألحانه.