في التسعينيات، امتلأت أسواق الكاسيت بشرائط تجميعية، التي تجمع أغاني المطرب من ألبوماته المتعددة على مدار السنين وتحمل عناوين مثل "أجمل أغاني". إلا أن هاني شاكر كان له مسار مختلف تمامًا مع هذه الظاهرة؛ فعندما تُجمَّع أغنياته المختارة، كان شريط الكاسيت يحمل عنوان مختلف كليًا، يُلائم أغاني الحزن وتقطيع الشرايين التي قدمها هاني شاكر عبر مسيرته، ليكون العنوان "دموع وأحزان هاني شاكر" أو "ساعة من الحزن مع هاني شاكر". وكأن المستمع يعرف مسبقًا أنه حين يضع هذا الشريط في مسجل الكاسيت، فإنه سيغوص في بحر من الحزن واللوعة وسيبكي مع قصص الحب التي ستنتهي بالفراق والألم.
لم يكن "أمير الأحزان" لقبًا فنيًا مجازيًا لهاني شاكر، بل كان انعكاسًا حقيقيًا لمسيرته الفنية التي زخرت بأغنيات تخاطب العاشق المهزوم، والمحب الذي لم تكتمل قصته، والقلب الذي ذاق مرارة الخذلان. وفي الوقت الذي كان فيه البعض يحتفل بعيد الحب بالأغنيات الرومانسية المبهجة، ويجمع العشاق السعداء أجمل أغاني الحب بأشرطة كاسيت تجميعية، كان هناك جمهور آخر يجد عزاءه في أغاني هاني شاكر، حيث يتحول العيد إلى لحظة استرجاع لذكريات حب لم يكتمل، أو علاقة خذلتها الأيام.
واليوم، ونحن نعود إلى أشرطة الكاسيت هذه بمناسبة عيد الحب، فإننا نستحضر معها تلك المشاعر التي جعلت من هاني شاكر الرفيق الأول لأصحاب العلاقات الفاشلة. سنختار من بين أغنياته الأشد حزنًا، لنبحر معها في رحلة استعادة الماضي، ونتذكر كيف كان صوته يترجم الأحزان العاطفية بأصدق صورة. سنعيد في هذا المقال تجربة تجميع أغاني هاني شاكر، لنختار منها الأكثر حزنًا أو الأكثر ملائمة لعيد الحب
عيد ميلاد جرحي أنا
سنفتتح الوجه الأول من الشريط بأغنية "جرحي أنا"، التي أصدرها هاني شاكر في عام 2000، ضمن ألبوم حمل اسمها، وهي من كلمات منصور الشادي ولحّنها وليد سعد ووزعها أشرف عبده.
في الوقت الذي يحتفل به العُشاق بعيد الحب، يرقصون ويتبادلون الهدايا ويقطعون الحلوى، يُمارس هاني شاكر طقوسًا احتفالية خاصة، ليجلس وحيدًا ويحتفل بالذكرى السنوية لانتهاء العلاقة التي تسببت بجرحه، يضع الشموع على قالب الحلوى ويغني: "شمعة دموع/ شمعة ألم/ شمعة حنين/ شمعة ندم"، مُتصالحًا مع كآبته ومحتفلًا بها.
بعض المُستمعين قد يتأثرون عند الاستماع لهاني شاكر وهو يحتفل بالوحدة، خصوصًا العُزاب الذين يشعرون بأنهم مقصيون في عيد الفالنتاين، وقد يتعاطفون مع أمير الأحزان الذي يُجسد بصوته وآهاته أوجاعهم، حتى وإن كان من غير المتوقع أن يُمارسوا ذات الطقوس بالاحتفال بعيد ميلاد الجراح.
لو بتحب
أحيانًا يبلغ هاني شاكر درجات من الحزن يصعب تخيلها، ليجمع بأغنية واحدة كل الخيبات والأحزان والانهيارات النفسية. وقد تضمّن ألبوم "الحلم الجميل" الذي أصدره سنة 1998 عدة أغاني شديدة الكآبة، اخترنا منها لألبومنا "لو بتحب"، التي يُقرّع بها الطرف الآخر الذي لم يُقدم التضحيات الكافية ولم يرتقِ بالمشاعر إلى خيالات هاني شاكر المثالية حول الحب، ليتسبب بصناعة واحدة من أكثر الأغاني كآبةً في تاريخ الأغنية العربية.
كتب كلمات الأغنية مجدي النجّار ولحّنها حسن أبو السعود ووزعها أشرف عبده. وتتميز الأغنية بالاعتماد على جملة لحنية ذكية، تتصاعد من الكآبة الشديدة إلى صرخات الألم، لينتهي كل مقطع من الأغنية بالآهات والصرخات المؤثرة، وتصل الأغنية إلى ذروتها مع الصرخة الأخيرة التي تختزل عذابات العشق كلها، حين يُكرر: "وأنا بنهار" حتى يُطبق الصمت المريح في النهاية.
نسيانك صعب أكيد
أغنية واحدة لا تغيب إطلاقًا عن الأشرطة التجميعية التي حملت اسم "دموع وأحزان هاني شاكر"، هي التحفة الفنية "نسيانك صعب أكيد"، التي صدرت ضمن ألبوم "شاور" سنة 1991، وهي من كلمات سمير الطائر وألحان خالد الأمير وتوزيع عماد الشاروني.
لا يبدو هاني شاكر راغبًا في الانغماس بدوامة الحزن الأبدي هنا، ويبدو أكثر انفتاحًا بأفكاره على الوصول إلى حلول. هكذا تبدأ الأغنية، بالتحليل المنطقي لوضعه الراهن: "نسيانك صعب أكيد/ مالوش غير حل وحيد/ أبدأ من تاني حياتي/ وأصادف حب جديد". ولكن التحليل المنطقي الذي تشوبه الأحكام العاطفية سيقوده سريعًا إلى إطلاق أحكام سلبية سلفًا على أي تجربة جديدة: "ولو إن الحب التاني/ مش هيعوضلي زماني/ ولا هيعوض حرماني/ اللي في بعدك بيزيد".
"نسيانك صعب أكيد" أكثر رومانسية ورقة مما سبقها من أغاني في الشريط، وتبدو العاطفة تجاه الحبيب أكثر وضوحًا، كغالبية الأغاني التي كتبها سمير الطائر؛ لكنها قد تكون الإطار المنطقي لمتلازمة الحزن في هيتات هاني شاكر.
أصاحب مين
لعل أكثر أغاني هاني شاكر رومانسية وأكثرها دفءً على امتداد مسيرته، هي أغنية "أصاحب مين" التي كتب كلماتها سمير الطائر ولحّنها خالد الأمير، وصدرت ضمن ألبوم "الحب مالوش كبير" سنة 1983.
في أغنية "أصاحب مين" لا يبتعد هاني شاكر تمامًا عن ثيمات الأغاني التي تحضر في أشرطة كاسيت الدموع والأحزان، فهو يُغني عن حالة الوحدة ويُغني بصوت مليء بالشجن، ولكن الأغنية مختلفة بالمنهج والأسلوب، فهي تبدو رسالة رومانسية رقيقة يُرسلها عاشق لا يتلذذ بالألم لحبيبته التي هجرته؛ فالوحدة سببها عدم القدرة على تقبل الآخرين بعد أن مرّ بالتجربة الأكثر رومانسية وجمالًا بحياته: " أصاحب مين؟/ وأنا من يوم ما شفت عينيك/ ماليش غيرهم صحاب تانيين".
جوقة الكمنجات التي تملأ الفواصل الموسيقية ترسم إطار الشجن للأغنية التي تتجاوز مدتها 8 دقائق، التي تزداد إثارة مع مرور الدقائق ويرتفع فيها منسوب الغزل: "يا أحلى عيون بدوب فيها وأعيش فيها/ ودايمًا يا حبيبي بقول/ أحب عنيك تسهرني/ أحب عنيك تحيرني/ ده فيهم سحر مش معقول". ودائمًا ما تتكسر الألحان الطربية المبهجة عند عتبة اللازمة الحزينة المليئة بالدموع والشجن: "أصاحب مين وغير حبك ماليش أصحاب/ وأكلم مين وغير قلبك ماليش أحباب".
غلطة
نفتتح الوجه الثاني من الشريط بأغنية "غلطة"، صدرت ضمن ألبوم "ليه ما نحلمش" سنة 1996، وهي من كلمات عماد حسن وألحان وتوزيع محمد ضياء الدين.
ساهمت أغنية "غلطة" برسم مسار هاني شاكر الفني في منتصف التسعينيات، فقبل أن تحقق نجاحها الاستثنائي كان هاني شاكر يُقدم ألبومات تُشبه السائد في أسواق الكاسيت من حيث البنية، لتحمل اسم الألبوم أغنية مبهجة ذات إيقاع سريع، من المتوقع أن تكون الهيت، وتأتي الأغاني الدرامية في متن الألبوم. لكن بعد "غلطة" أدرك هاني شاكر أن نجاحه مقترن بالأغاني الدرامية الحزينة، لتحتل عناوين الألبومات في السنوات التالية أغاني درامية حزينة.
صوت النار التي تلتهم الصور والذكريات في الفيديو كليب سيبقى محفورًا بالذاكرة، وسيلازم المستمعين الذين عند الاستماع لأداء هاني شاكر الانفعالي الذي يتجاوز حد الصراخ عند الاعتراف بأن الحب "غلطة ندمان عليها".
أغنية "غلطة" هي الأكثر قسوة بين أغاني التجاوز التي قدمها هاني شاكر، ففيها نلمس انفعالية العاشق المجروح ونصدق ونتقبل ردود الفعل القاسية التي تغلق الباب تمامًا بوجه أي مبادرة لتصحيح أحطاء الماضي، وتحول الحب إلى ذكرى أليمة يتردد صداها مع صرخات الألم.
تخسري
في أغنية "تخسري" التي صدرت عام 1997، ضمن ألبوم حمل اسمها، يُكرر هاني شاكر تعاوناته الناجحة مع الشاعر الغنائي عماد حسن والملحن والموزع الموسيقي محمد ضياء الدين.
أغنية "تخسري" توثق لحظة الانفصال، ورغم كل الألم والشجن في صوت هاني شاكر بأدائه للأغنية، ولكن الأغنية تُمثل انتصارًا وهميًا لأصحاب العلاقات الغرامية الفاشلة، فالآخر هو الخاسر، خسر الحب الحقيقي الذي تبرهن عليه الدموع والساعات الطويلة من الحزن.
حكاية كل عاشق
نختتم شريط الكاسيت بأغنية "حكاية كل عاشق"، الأغنية التي صدرت عام 1989 ضمن ألبوم يحمل اسمها، وهي من كلمات سمير الطائر وألحان محمد سلطان.
البنية الفنية لأغنية "حكاية كل عاشق" تعيدنا إلى الزمن الجميل. مدتها تتجاوز 19 دقيقة، وتبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية طويلة تسافر بالمستمع إلى أجواء حالمة قبل أن يبدأ الصوت الدافئ لهاني شاكر في سرد القصة عندما تقترب الدقيقة الرابعة من نهايتها. ومع أول بيت، يضعنا أمام فلسفته الخاصة بالحب: "حكاية كل عاشق/ هي حكايتك يا قلبي/ بتحب وتفارق بالنهاية"؛ ليلخيص هاني شاكر أفكاره حول حتمية الألم والفراق في الحب، وكأن العشق لا يكتمل إلا بالفقد. الألحان تدعم هذا الإحساس، فالناي الحزين يملأ الفراغات الموسيقية، كأنه صدى لآهات العشاق الذين مروا بهذه التجربة.
لكن رغم أن لون لحزن هو الطاغي، إلا أن الأغنية تمر ببعض الفصول الأقل ألمًا، وتحمل أيضًا لمسة مواساة غير مباشرة. فهي لا تترك العاشق وحيدًا في حزنه، بل تخبره أن ما يمر به ليس استثناء، بل هو "حكاية كل عاشق"، وأن الضياع الذي يشعر به الآن ليس إلا امتدادًا لما مر به آخرون. وكأن هاني شاكر يخاطب العشاق المجروحين ويخبرهم: أنتم لستم وحدكم. هذه هي طبيعة الحب، وهذه هي نهاياته التي لا يمكن لأحد الفرار منها؛ ليشعر المستمع بأنه دخل حفل لأصحاب القلوب المحطمة مع لازمة الأغنية: "ونتوه زي اللي تاهوا/ وندوب زي اللي دابوا/ يبكي الحب في عنينا/ تحكي الأيام علينا/ حكاية كل عاشق".