لم يَكُن التحضير لمقابلة فنانة بحجم أنغام أمرًا سهلًا، فلم يمر الوقت في انتظارها دون الشعور بمزيج من الترقب والإثارة، كيف لا وهي أيقونة في عالم الغناء العربي، صوتٌ استثنائي شكل وجدان أجيال، وصاحبة مشوار فني كبير يربط بين ماضي الأغنية العربي وحاضرها؛ فإجراء مقابلة مع أنغام ليس حدثًا عاديًا، وإنما هي رحلة بالتعرف على رحلة الفن الأصيل، الذي شقّ طريقه إلى الأغنية المعاصرة.
كثيرة كانت الأفكار المُسبقة حول المُقابلة، ولكنها تلاشت مع وصول أنغام بإطلالتها البيضاء وابتسامتها الساحرة. تتلقى أنغام بالابتسامة ذاتها كل الآراء والتعليقات وتُخفف من وطأة التوتر؛ فيزول تمامًا عندما تبدأ حديثها، الذي يكشف عن شخصية قوية وعميقة مُثيرة للإعجاب، قادرة على نقل أفكارها ببساطة لا متناهية، ولكن بجاذبية تأسر كل من يصغي إليها.
أنغام، بلا شك هي واحدة من أهم الأصوات المصرية المعاصرة. بدأت رحلتها الفنية في أواخر الثمانينيات تحت إشراف والدها الموسيقار محمد علي سليمان، الذي ساهم في إطلاق موهبتها المبكرة. درست الموسيقى وتعلمت العزف على البيانو، مما أعطاها أساسًا قويًا في الفنون الموسيقية. خلال هذه الفترة، قدمت أنغام العديد من الأغاني الطربية التقليدية التي حملت بصمة والدها الفنية. لكن في أواخر التسعينيات، قررت أنغام التحول إلى مسار فني جديد بعد الانفصال المهني عن والدها، حيث تبنت أسلوبًا عصريًا أكثر قربًا من البوب العربي، ما ساهم في إعادة تشكيل هويتها الفنية. هذا التغيير ساعدها في الوصول إلى جمهور أوسع وأكثر تنوعًا، وأكد مكانتها كإحدى الأصوات الرائدة في الساحة الغنائية العربي، وتُحافظ على هذه المكانة مع تقدم الزمن كنجمة تربط بين ماضي الأغنية العربية وحاضرها.
بدأ الحديث من نقطة النهاية، بمناقشة ألبوم أنغام الأخير، "تيجي نسيب"، الذي أخذتنا أغانيه برحلة في عالم المشاعر، أضافت إليها أنغام أبعادًا أخرى عندما كشفت عن الجوانب الذاتية منها، والحكايات المخفية ما بين السطور. وصفت أنغام ألبومها بأنه "حدوتة" تعكس واقع الحياة، حيث قالت: "الألبوم ده كأنه حدوتة ليها بداية ونهاية، فيها حواديت ناس كتير ومواقف كتير ممكن تحصل، واقعية جدًا. يمكن اللي كان رابط كل الحاجات مع بعضها شكل الموسيقى.. الموسيقى اللي أنا بسميها التعبيرية".
في حديثها، تجلت خبرة أنغام الموسيقية، حيث تحدثت عن قدرتها على بناء قصص من واقع الناس، قصص قد يراها المستمع في حياته اليومية أو حتى يجد نفسه جزءً منها. وتضيف: "الألبوم زي الدراما، كأنك بتتفرجي على حواديت ناس كتير بتشوفيها، وبتشوفي نفسك أحيانًا جوا الحكاية، أو بتشوفي 2 تانيين أو 3 إنتي عارفة قصتهم. هو الموضوع بالبساطة دي، بس هو من أكتر أسباب النجاح"، لتكشف أنغام بكلماتها سرّ نجاح أغانيها وخصوصيتها، من خلال ارتباطها بالمستمعين وما يعيشونه ويألفوه من حكايات. كل ما تُغني عنه أنغام يحمل قابلية التصديق، لتتكون علاقة إنسانية بين الأغنية والمستمع، وكأنها تعيش معه تفاصيل يومه.
لم تتعامل النجمة مع ألبومها الأخير كخطة ثابتة، بل كرحلة مليئة بالتغييرات والتجارب: "ماكذبش عليكي وأقول إني كنت عارفة تمامًا هأعمل أيه، لأ هو الألبوم بيتبني شوية شوية، وممكن نغير حاجات في النص؛ أحيانًا شكل الموسيقى أو ترتيب الكلام ورا بعضه، بيخليني أغير. هو كان في خطة، بس اتغيرت للأحلى".
وبعد الحديث عن ألبومها الأخير "تيجي نسيب"، اتجهنا مع أنغام للغوص أكثر في تفاصيل اختياراتها الفنية وتعاوناتها الموسيقية. كشفت أنغام عن فلسفتها وراء اختيار الأغاني وكيفية تكوين رؤيتها الموسيقية منذ اللحظة الأولى، مشيرةً إلى أن المسرح يلعب دورًا محوريًا في قراراتها: "دايمًا بيشغل بالي شكل الأغنية حيبقى إزاي على المسرح، فاختياراتي دايمًا بتبقى مايلة للحتة دي، لأني بحب المسرح؛ حفلتي هي روحي"، تقول أنغام بحماس، مؤكدةً أن فكرة التفاعل المباشر مع الجمهور هي إحدى العناصر الأساسية التي ترافقها أثناء تسجيل أي عمل. تُضيف: "لما أختار أغنية وشكلها الموسيقي، بفكر ببدايتها وقفلتها، حيبقى إزاي التفاعل معاها، والسولو اللي فيها؛ دي عناصر أساسية بالنسبالي، وممكن أعيد تسجيل أغنية مرتين وتلاتة عشان أوصل للبيك بتاع القفلة، اللي يحسسك بقفلة المسرح اللي بتخطف التصفيق".
وعن تعاوناتها في "تيجي نسيب"، أشارت أنغام إلى وجود توازن دقيق بين شركائها الدائمين والأسماء الجديدة التي عملت معها لأول مرة. فهي لم تتخل عن تعاوناتها المثمرة مع الموزع الموسيقي طارق مدكور والشاعر الغنائي أمير طعيمة، الذين يعملان معها منذ أكثر من 20 عامًا، مؤكدةً أن هذه الشراكات الطويلة تساهم في الحفاظ على هوية موسيقية مميزة. وفي الوقت نفسه، جدّدت أنغام مشروعها الموسيقي من خلال تعاونات جديدة ومُفاجئة. أشارت أنغام إلى أن مفاجأة الألبوم هو أكرم حسني، الذي كتب لها أغنيتي "خليك معاها" و"تيجي نسيب"، وهو المعروف أساسًا بكونه كوميديان مصري، بالإضافة للشاعر الغنائي مصطفى حدوتة، الذي انطلق من عالم أغاني المهرجانات بخط بعيد عنها تمامًا، وكان له دور بإدخال مفردات جديدة بأغنية "موافقة". وأشادت أنغام بالشاعرات الثلاث اللواتي تعاونت معهن للمرة الأولى في ألبوم "تيجي نسيب"، بمن فيهن هالة الزيات التي كتبت لها أغنية "هو أنت مين"، التي حققت أفضل أداء على قوائم بيلبورد عربية.
في الجزء الأخير من المقابلة، تحدثت أنغام عن مشروعها الأكثر طموحًا المتمثل بشركة الإنتاج الخاصة بها "صوت مصر"، التي كان ألبوم "تيجي نسيب" باكورة أعمالها. أشارت أنغام إلى أن الشركة تأسست بين عامي 2014 و2015، وكان الهدف الرئيسي وراء هذه الخطوة هو إنتاج أعمالها الخاصة، لكنها لم تتوقف عند هذا الطموح الشخصي. تقول أنغام: "جوايا عايزة إني أنتج لأصوات جديدة، وانشالله هأعملها، بس هي محتاجة وقت مني". وأضافت: "أنا مش هكون المنتج اللي بيصرف فلوس، مش ده اللي أنا بفكر فيه. أنا بفكر إني أحط ناس على التراك المزبوط". تعكس كلمات أنغام هنا رؤيتها العميقة لدور المنتج، ليس فقط كممول، بل كمنظّم ومدير إبداعي يساعد الفنانين الجدد على الوصول إلى أفضل ما يمكنهم تقديمه.
تُشير أنغام إلى أن بعض المواهب العظيمة تحتاج فقط إلى توجيه صحيح، شخص يرسم لها الطريق المناسب ويختار لها ما يناسب صوتها وشخصيتها الفنية. وتضيف: "أنا مش هحكتر حد عشان نكون واضحين؛ الفكرة مش بدماغي خالص". ما يبرز من هذا الحديث هو رؤية أنغام التي تقوم على دعم الفنانين الشباب دون محاولة السيطرة على مشوارهم الفني، بل تمهيد الطريق لهم ليكونوا هم أصحاب القرار في نهاية المطاف.
وفيما يتعلق بخططها المستقبلية، كانت أنغام واضحة بأنها لا تتوقف عن الإبداع والتجديد. تقول: "وأنا بتكلم النهارده شغالة عالجديد، طول الوقت في مزيكا بدماغي، وفي كلام بسمعه وأقراه وأغاني جديدة وناس جديدة أنا حاطة عيني عليها". طموح أنغام لا يعرف الحدود، فهي تسعى دائمًا إلى تعزيز تجربتها الفنية من خلال العمل مع أسماء جديدة وملحنين يضيفون لمستها الخاصة.
أنغام ليست مجرد فنانة، بل هي رمز لصوت مصر وجسر يصل بين الأجيال الموسيقية المختلفة. من خلال ألبوم "تيجي نسيب" وتعاوناتها المتنوعة، ومشروعها الإنتاجي "صوت مصر"، تثبت أنها فنانة قادرة على التكيف والتجديد دون التخلي عن هويتها. وانتهى الحديث مع رسم صورة لمستقبل موسيقي يبدو مشرقًا؛ ليس فقط لأنغام، ولكن للأصوات الجديدة التي قد تجد في "صوت مصر" منبرًا يتيح لها الانطلاق نحو آفاق جديدة.