في فيديو احتفالي بذكرى تأسيس نادي الترجي الرياضي التونسي، أكبر وأشهر أندية كرة القدم في تونس، يظهر إمباير مرتديًا القميص التاريخي للنادي الأول مع قسمات حادة تعلو وجهه ونظرات مليئة بالفخر. يحمل تمثيل إمباير للفيديو الاحتفالي للنادي رمزيات متعددة، أهمها أن الراب تسيّد التعبيرات الموسيقية في المشهد في تونس، وأن إمباير بدوره تسيّد المشهد في المدينة التي خرج منها، تونس العاصمة، وليس مجرد حيّ من المدينة بعينه كما معظم الرابرز.
ابتعد الرابر عن الظهور الإعلامي وبقي متطلّبًا في كتابته وتوجّهاته الموسيقية، ونجح في صناعة هويةٍ صوتية بفضل اختياراته الإنتاجية الموفقة مع عفيف شريف بشكلٍ خاص وأسماء أخرى في الإخراج وهندسة الصوت. أتاح إمباير لجمهوره معجمًا وذخيرة من المفردات والنصوص التي أصبحت بمثابة دستورٍ للالتزام اليومي في الحياة وغزت التعبيرات على الجدران في العاصمة. كما كسب رهانًا فريدًا بجمعه بين شرائح عمرية وجيليّة مختلفة من الجمهور عبر تركيزه على مواضيع وجوديّة ودارجة بلغة شاعرية بسيطة وغير منمّقة، خالية من التبجّح المفرط وأجواء العصابات على شاكلة معظم الرابرز في المشهد التونسي.
نستعرض في هذه الاختيارات مجموعة من تراكات إمباير دون ترتيب تفاضلي، في محاولة لتفكيك جماليات أسلوبه وأدائه واختياراته الصوتية والشعريّة.
السنة نمس السماء
يعلنها إمباير بشكل واضح في هذه الأغنية: "السنة نمس السماء نفوت البحورات"، ويطلق وعده بالصعود والانطلاق نحو مرحلة جديدة في مسيرته. تظهر لقطات مصوّرة من بدايات الرابر في مقدمة الفيديو ينتقل بعدها إلى بصريّات مستقبليّة تخيّم عليها مسحة من الديستوبيا.
يقتبس إمباير مجازات مستوحاة من الويب 3: "كعبة لخر إمباير غالي NFT" في تحدٍّ قلما نراه على مستوى الكتابة من خلال ابتداع صور شعرية جديدة على معجم الراب في المشهد المحلي، وينتقد استيراد الثيمات العصاباتية التي طغت على مشهد الراب التونسي: "فرودة بالماء كليبات باو باو" مستعرضًا قدرته على توليد الصور من الكلاميّات اليومية في العامّية التونسية مثل "صح ستّار" التي تبنّتها بعض المنصات الإعلامية الفنية في تونس وأصبحت علامة مميزة لها.
لا يفوت إمباير أن يؤكد تسيّده لمدينته: "العاصمة كي دارنا ما تلفتّش للـ map" متجاوزًا تعبيرات الانتماء الضيقة التي تتردّد لدى العديد من الرابرز.
مع اقتراب الأغنية من النهاية، تتآلف عناصر الإنتاج مع صوت إمباير في مسار إيقاعي نستشعر خلاله صعود أداء الرابر عبر جرعات مضاعفة من الحيوية، يعزّزها مزاج روك صاخب، واشتداد زخم الإيقاعات مع فواصل صوتية تبدو أقرب إلى الجيتار الكهربائي.
نبرة
"نبرة" هي إحدى درر التعاون بين الرابر وصانع البيتات كييف والمنتج عفيف شريف. تجمع الأغنية بين قوّة النص ومباشرته وعناصر الإخراج الموظّفة بشكل قوي عبر مشاهد بنفس حدّة مضمون البارات. تحولت الأغنية إلى أشبه بالمانيفاستو على لسان العديد وجسّدت الرغبة في التغيير على أنقاض عالم بائد: "والله لو كان أنا جا بايدي / حتى لو كان الناس جات ضدي / نجيب الجاهل نعلمو يقرى / نعاود نبني بلاد جديدة نبرة"، كما حمّلها إمباير سخطه على حالة الشلل التي ضربت الأزمنة الحديثة: "قلوب بيت ثلج روبوات لابسة لحمة".
يسيطر صولو ساكسفون طويل لشهاب البعزاوي على الخاتمة، ويمتد تقريبًا على نصف زمن الأغنية دون صوت إمباير، تشتبك على امتداده الإيقاعات مع أصوات النفخيّات لتحاكي أجواءً هلوسيّة.
حبيتك
"حبيتك" إصدار نموذجي يختزل أهم ملامح الهوية الصوتية والأدائية لِإمباير. أنتج عفيف شريف الأغنية معتمدًا على عيّنة صوتية من أغنية "حبيتك بالصيف" لفيروز وإيقاعات كلاسيكية تذكرنا بمدارس الأولد سكول التي تأثر بها الرابر. يصوغ إمباير مجازات ظريفة ولعوبة للتبجّح موظّفًا صورة بلحسن الشاذلي، أحد أهم العلامات الصوفية الحاضرة بقوة في الذاكرة الشعبية للتونسيين: "سيدك بلحسن فوق الجبل أطلع زورو"، ليقدّم نفسه كملهمٍ لتثوير المشهد: "جيت قلبت القعدة / راب موش لعبة". يختم إمباير الأغنية بتحيات واسعة إلى أبناء حيّه وإلى الذين آمنوا به في بداياته وكل من دافع عن الراب في مشهد الهيب هوب المحلي.
بيان مع كاتيب
تقدّم أغنية "بيان" بيانًا لصوت راب المدينة، بجمعها بين انفجاريّة كاتيب وانسيابيّته وخامته الدافئة، وفلوهات إمباير الواثقة التي تلوّنها مسحة من الحنق والسخط في صوته. أدخل المنتج فدّيني عناصر صوتية من وحي الحياة اليومية داخل المدينة، مثل أصوات الأذان المتداخلة في فضاء العمران، والتي تظهر في بداية التراك. غلب على كاتيب توجّه غنائي خلافًا لِإمباير الذي حافظ على أداء راب خام وأطلق باراته كملاكم حانق لا يثنيه التعب، موظّفًا بشكل جذّاب مفردات وصورًا من لغة الحياة اليوميّة ومجازاتها.
"بيان" من أهم التعاونات في مشهد الراب التونسي خلال آخر ثلاث سنوات واحتلت مكانة مفتاحيّة في مسيرة إمباير الذي انطلق بعدها في نسق إنتاج زخم وتصاعدي.
دنيا
نرى وجهًا آخر لإمباير في "دنيا" بعيدًا عن الراب، بأداءٍ يغلب عليه الغناء وملوّنًا بتأثيرات المزود والراي في بعض المقاطع. يكشف العنوان عن نص درامي وثيمات معهودة في سرديات المزود تغوص في الحزن والنوستالجيا، استوعبها زمن الأغنية الطويل نسبيًا مقارنةً بإصدارات إمباير السابقة.
تكشف "دنيا" عن جانب شفّاف من شخصية إمباير الذي لا يخجل من أن يظهرَ مغلوبًا من تقلبات الحياة ووجع فراق أصدقائه، بعيدًا عن الصورة الحانقة التي عهدناها في إصداراته السابقة المليئة بالحيوية والانفجارية.
آخر مرة
تبدو الأغنية كإصدارٍ قديم أُفرج عنه بعد سنواتٍ من الحفظ، إذ تذكرنا ببدايات نضوج الراب وانتشاره في تونس. قد نتوهّم بأن "آخر مرة" من أقل أعمال إمباير المتأخرة اجتهادًا في الأداء والإنتاج، لكن غايته تتّضح من خلال توخّيه أداء راب خام تلوّنه لازمة غنائية يغلب عليها التضرّع إلى والدته، ونصّ مفرط في المباشرة دون أن يكون ثقيلًا.
يخيّم على الأغنية جو ثقيل وكئيب يتعزّز بصوت الكمنجات والكنترباص في الخلفية، والذي يضفي حمولة مضاعفة من الحزن تتوافق مع مضمون الأغنية. يروي إمباير قصة بداياته في الراب ويعدّد محن الشباب من جيله وعلاقته المضطربة ببلده والعائلة، كما يتعرّض إلى مشاكل الإدمان والملاحقات من البوليس.
بلا بلا بلا
لم يذكر إمباير الأسماء المعتادة في تشكيلة الإنتاج والإخراج تحت وصف فيديو أغنية "بلا بلا بلا" على اليوتيوب، واكتفى باستعارة سطر من الأغنية ذاتها: "ما نبدلش إيكيب حريقة ديما كاملين خمسة وقول". لا يغيّر الرابر من تشكيلة رابحة ضمنت له توليفة قوية بين عناصر الإنتاج والإخراج. الفيديو جذّاب ويحوي رمزيّات بسيطة ومباشرة، ساهم في تصويره متطوعون من جمهور إمباير إثر نشره لستوري يطلب فيه مجموعة صغيرة للعب أدوار تمثيلية صامتة في الفيديو، ليُفاجأ بأعداد هائلة من المتحمسين الذي قدموا من مختلف مناطق البلاد إلى حيّه باب الفلّة في العاصمة.
يهاجم إمباير الخطابات السياسية الجوفاء: "بلا بلا بلا بوليتيك سينما" وينتقد معها حال الراب واستهلاكه لمواضيع فردانيّة موغلة في التذمّر والهروب والدراما مؤكدًا على أن الخلاص جماعي أو لا يكون: "مازلت نحكي ب نحنا / يزّي من لغة محنة". يصرّ بلحسن إمباير على الأساسات الكلاسيكية لمضامين الراب مغامراً بخوض المواضيع القديمة التي راجت على نحو واسع خلال العشرية الثانية من الألفينات في ظل نزوح العديد من الرابرز نحو ثيمات أكثر تجارية.
يستحضر إمباير بعض الملامح الأسلوبية من أهازيج الألتراس في أداء اللازمة الرئيسية ويتلاعب بتدفقات سريعة عند ذروة الأغنية مع انقلاب البيت إلى أجواء كلوب، فيما تخيّم ألحان شرقية في الخلفية لها طابع درامي يتماشى مع التوجه الإخراجي للفيديو.