دائمًا ما تتخذ بيري دور الهجوم في أغانيها دون أن تفقد قوتها أو تميل إلى الضعف، استمدت إلهامها من جذورها المغربية والمصرية، وحملت صوتًا نسويًا صاعدًا لمواجهة التغيرات السريعة. وأسست على مر السنوات هوية بصرية مختلفة استلهمتها من ثقافتها الخاصة، وأنتجت موسيقاها بنفسها لتستوحي أصواتها من كل الموسيقى التي سمعتها منذ طفولتها.
فيما توالت إصدارات بيري متنوعة الأصوات في الفترة الماضية، نعود لنستعيد تفاصيل رحلتها منذ البداية:
"أناكوندا": الجرأة والإيقاع في قلب بيري
بدأت بيري الغناء منذ سن مبكرة جدًا، ربما في عمر 8 سنوات أو أصغر، وفقًا لما صرحت به في مقابلاتها، ونشأت في بيئة موسيقية بفضل والديها. دخلت عالم الراب لاحقًا بعد فترة من الغناء، خصوصًا بعد انتقالها للعيش في بريطانيا، حيث بدأت تجربة الفريستايل ونشرت أولى فيديوهاتها على إنستغرام، وهناك أدركت أنها تمتلك شيئًا لتقوله وأن لديها موهبة تستحق المشاركة.
شكّلت أغنية "شيجله" لحظة مهمة في مسيرة بيري عام 2020، إذ عبّرت من خلالها عن موقفها تجاه تصوير النساء في الموسيقى. استلهمت بيري هذه الأغنية بعد أغنية تميم يونس "سالمونيلا"، التي تم حذفها بعد أن حمل مضمونها أبعادًا ذكورية ومسيئة للنساء. بدأت بيري الأغنية بمزيج غنائي يبرز قدرتها على أداء كلمات حادة تعكس موقفها الشخصي، ثم انتقلت بسلاسة إلى الراب، حيث أظهرت قوتها في تسليم بارات سريعة وحادة.
بعد هذا التمهيد، أطلقت بيري أول إصدار رسمي لها بعنوان "أناكوندا"، وقدمت نفسها للعالم بثقة كاملة كاشفة عن شخصيتها الجريئة والمستقلة. استخدم المنتج الوايلي إيقاع تراب، بينما اختارت تشبيه نفسها بالأناكوندا لتبرز سيطرتها وثباتها في المشهد، حيث تتحرك بلا خوف وتفرض حضورها في كل بار كتبته من الأغنية.
ألبومات أكثر وتطور الهوية الإنتاجية
على الرغم من أن بيري بدأت مسيرتها قبل خمس سنوات فقط، إلا أن رصيدها من الألبومات سرعان ما أصبح ملحوظًا، حيث يضم أربعة ألبومات بين قصيرة وطويلة. من بين هذه الأعمال، يبرز الألبوم القصير "تروما"، الذي حكت فيه عن تجارب داخلية ويمكن القول أنه كان ألبوم مفاهيمي من فصول تحكي عن شخصياتها المختلفة.
في حديثها عن صناعة هذا الألبوم، وصفت بيري التجربة كرحلة شخصية وعاطفية، حيث تقول: "أخذت المستمعين في رحلة 13 سنة مني بسمع المزيكا، في تراب في ديب هاوس وهي جنرا متأثرة بيها من لما كان عمري 15 سنة وكنت بديجاي، في أفرو و دانسهول وفلامنكو".
أمّا ألبوم "انفينيتي" الصادر في 2024، فكشف عن مرحلة جديدة في مسيرة بيري، حيث تولت بنفسها إنتاج الألبوم بالكامل، وقامت بعمليتي الميكسينغ والماسترينغ، مؤكدةً قدرتها على التحكم في كل تفاصيل موسيقاها. في هذا العمل، قدمت بيري نفسها كفنانة متكاملة، تجمع بين الصوت والإنتاج والهندسة الصوتية.
رغم ابتعادها عن الهيب هوب، تميز الألبوم بتجربة موسيقية جريئة، لا سيما في تراك "كثير" الذي تعاونت فيه مع محمود صيام من فرقة مسار إجباري. أخرجت الفيديو كليب جنان عرفات، وظهرت بيري في مشاهد متأثرة بجو السبعينيات والسنث بوب. بعيدًا عن مواجهة الكاميرا ببارات ثقيلة، غنّت الكلمات بهدوء وأدخلت طبقة جديدة إلى صوتها، ما جعل الأغنية أقرب إلى المزج بين البوب البديل والموسيقى الإلكترونية.
رحلة بيري عبر تعاونات مثمرة
منذ خطواتها الأولى، لم تكن بيري فنانة تكتفي بالعمل الفردي، بل اختارت التعاون كمساحة اختبار وعبور بين عوالم موسيقية متعددة. في تراك "دوس بنزين" مع أورتيجا، دخلت إلى عالم المهرجانات من بابه العريض، لتفتح لنفسها قناة مباشرة مع هذا اللون. لم يكن الأمر مجرد تجربة عابرة، فقد عادت لاحقًا لتأخذ عينات من موسيقى المهرجانات وتعيد توظيفها بطريقتها الخاصة، كما في "غنيمة" مع الوايلي، حيث بدت أكثر وعياً بقدرتها على تحويل الأصوات الشعبية إلى مادة جديدة ضمن عالمها.
أمّا مع أبيوسف في تراك "مملكة" لم يكن التعاون مجرد لقاء بين اسمين، بل أشبه بخطوة عبور إلى عالم آخر من الكتابة والإلقاء، منحها مساحة أوسع لترسيخ اسمها أكثر في مشهد الهيب هوب. وقد أثبتت أنها قادرة على مجاراة واحد من أبرز الأسماء، لتضع اسمها في صلب المشهد كواحدة من أبرز الأصوات النسوية الصاعدة.
لاحقًا، فتحت تعاوناتها أبواب السينما أيضًا، حيث شاركت مع فرقة شارموفرز في أغنية فيلم "رمسيس باريس"، وأخرى مع فليكس لفيلم "نجوم الساحل".
من بين محطات بيري، يبرز تراك "إيه الكلام؟" مع نايومي كتجربة لافتة. جمع العمل صوتين من مشهد الهيب هوب بالمنطقة، كل واحدة بأسلوبها الخاص: بيري تميل إلى الفلو السريع والبارات المليئة بالوردبلاي، بينما نايومي تقدم أداء مباشرًا وأكثر حدة. هذا التباين خلق توازن جعل التراك مختلف عن تعاونات أخرى. أضاف الإيقاع القريب من الفونك البرازيلي طاقة مختلفة، بينما قدم الكليب صورًا قوية مثل مشهد بيري أمام الأهرامات مرتدية سترة النادي المغربي، في إشارة إلى هوية ممتدة تتجاوز الحدود.
لم نكن ندرك أننا بحاجة إلى صوت بيري قبل أن تظهر في المشهد. غيّرت منذ ظهورها قواعد اللعبة ليس فقط في عالم الهيب هوب، بل في صناعة الموسيقى بشكل عام. كما رسمت لنفسها مسارًا فرديًا لتغرد في الكثير من الأحيان، وحدها خارج السرب. لكن اليوم أصبح وجودها ضروريًا في مشهد يحتاج إلى المزيد من الأصوات القويّة، فهي تثبت أن الموسيقى لا تعرف حدودًا للفنانات اللواتي يمتلكن الجرأة والرؤية.