في مطلع سبتمبر، كتب قصر فرساي فصلًا غير مألوف من تاريخه؛ فالجدران التي عرفت موسيقى البلاط الملكي الفرنسي، رددت -هذه المرة- صدى نغم جديد عليها. هناك، بين الأروقة التي تختزن مجدًا أوروبيًا قديمًا، تعالت أصوات "الأوركسترا والكورال الوطني السعودي" لتعلن أن المملكة صارت تخاطب العالم بلغة جديدة: لغة الموسيقى. لم يكن الحفل مجرد عرض موسيقي عابر، بل مشهدًا رمزيًا يلخص مسارًا ثقافيًا يتسع يومًا بعد يوم، ويعكس التحول الذي تشهده السعودية وهي تعيد صياغة صورتها عبر الأوتار والأصوات والأنغام.
أكبر من مجرد فرقة
منذ بداية تأسيسها مع حلول العام 2019 تحت مظلة هيئة الموسيقى، حملت الأوركسترا والكورال الوطني مشروعًا أكبر من مجرد فرقة فنية؛ مشروعًا يخلق بيئة أكاديمية للموسيقيين السعوديين، ويمنح التراث المحلي أفقًا عالميًا. جولة "الروائع" التي طافت باريس ونيويورك ولندن وسيدني وطوكيو وميكسيكو سيتي، وجدت في قصر فرساي نقطة تتويج جديدة، ليس فقط لأن الحفل أقيم في أحد أعرق قصور أوروبا، بل لأن نخبة من شباب الموسيقيين السعوديين وقفوا هناك ليقدموا للعالم صورة مختلفة لبلادهم: صورة تنبع من الداخل، لكنها تنفتح على الخارج بثقة وشغف.
انطلقت الأوركسترا الوطنية في أول محطة عالمية لها في باريس عام 2022، على مسرح أوبرا Théâtre du Châtelet، لتكون أول حضور عربي على خشبة المسرح العريق. ومن بعد هذه المحطة، ولد لأول مرة العرض الذي حمل عنوان "روائع الأوركسترا والكورال الوطني السعودي". ومنها تتالت المحطات العالمية، من مكسيكو سيتي ونيويورك إلى لندن وسيدني وطوكيو، وصولًا لأول عرض للأوركسترا الوطنية في بلدها الأم، حيث قدموا "الروائع" في الرياض في مطلع العام 2025. وفي أغسطس الماضي، قدمت الأوركسترا حفلًا آخر في الرياض، هذه المرة احتفالًا بتخريج الدفعة الأولى من "برنامج الأوركسترا والكورال الوطني السعودي للتعليم الموسيقي"، بعد رحلة تدريبية استمرت عامين.

"الروائع" ومخاطبة الثقافات المختلفة
ما بين الموسيقى السعودية والجمهور العالمي، وجد العرض الذي يجوب العالم طريقة للحديث مع الجماهير المختلفة بلغة الموسيقى، فاشتهر بفقرات صُممت خصيصًا لتتناغم مع الثقافات المختلفة لكل بلد، وأصبحت علامته التي يترقبها الجمهور مع كل محطة معلنة. فسمعنا في لندن مزيج أغاني لـ أديل مع الأغنية التراثية "عديت في مرقب"، وفي نيويورك تغنوا برائعة فرانك سيناترا "Fly Me to the Moon" بتوزيعات إيقاعية شرقية، بينما سمعنا في اليابان ميدلي لأغاني الأنمي باللغة العربية.
أما في عرض فرساي، الذي امتد لساعة ونصف متواصلة، فقدمت الأوركسترا السعودية مزيجًا متفردًا من الأغاني التراثية والمعاصرة، مصحوبة بالفنون الأدائية مثل الخبيتي، والمجرور، والخطوة، ثم انتقلت إلى الغناء باللغة الفرنسية، ثم الغناء الأوبرالي، في خليط موسيقي مدهش. وتضمن الحفل فقرة موسيقية مشتركة بين الأوركسترا السعودية وأوركسترا دار الأوبرا الملكية، تحت قيادة المايسترو هاني فرحات، أول عربي تعزف الأوركسترا الفرنسية تحت قيادته. وفي اليوم التالي، تولى المايسترو رئاب أحمد القيادة، وقد كان قد تدرب على هذا الدور عبر السنوات الماضية، ليصبح أول مايسترو سعودي في قيادة الأوركسترا الوطنية.
لوحة تجمع أكثر من 100 موسيقي
ما يجعل هذا المشروع لافتًا ليس فقط التأسيس الأكاديمي، بل بنيته التي تكشّفت لنا عند الاقتراب منه والدخول في كواليسه، ومقابلة نسائه ورجاله. ففي تكوين هذا الصوت المشترك الذي يمثل المملكة، يقف أكثر من 100 موسيقي، لكل منهم حكايته الخاصة.
أعضاء الكورال والأوركسترا جاءوا من مهن مختلفة: أضواء شنان كانت تعمل في العلاج النفسي الإكلينيكي، ومعن اليماني كان مستشار مبيعات، ومها عبد الله عملت في مجال الرعاية الطبية، بينما كان إبراهيم الراشد، عازف البيانو، مهندس شبكات واتصالات. جمع بينهم شغف بالموسيقى جعلهم يحيدون عن مساراتهم ويلتحقون بحلم انتظروه طويلًا. بالنسبة لهم، كان الانضمام إلى الكورال لحظة فارقة، نقطة تحول حقيقية في مجرى حياتهم.
لكن خلفياتهم المهنية لم تكن وحدها ما يميزهم، بل أيضًا أذواقهم المتباينة التي تُظهر تنوعًا آخر داخل الفريق. نواف الجيزاني، أصغر الأعضاء سنًا، الذي قد يستغرب البعض ولعه بالموسيقى الكلاسيكية، اعترف مبتسمًا: "أنا مثل أغلب أبناء جيلي أستمع للراب وغيره، لكن ذوق والدي أثر فيّ، كان يشغّل أغاني قديمة وتأثرت به". الموسيقى الفرنسية أيضًا كان لها عشاقها، مثل مغنية الكورال فاطمة زاهد، التي تألقت في حفل فرساي بأداء أغنية "الشانزليزيه" باللغة الفرنسية. أما هتاف وتغريد الشهراني فتفضّلان الأغاني العربية القديمة التي تربَّتا عليها، بينما ترى حورية نفسها أقرب إلى الـ آر-أند-بي.
وفي جولة سريعة بين الأعضاء بالكواليس، بدا واضحًا أن كلا منهم يحمل مزاجًا مختلفًا وميلًا خاصًا، لكن عند الصعود إلى المسرح تختفي هذه الفوارق ليذوب الجميع في صوت واحد. هذا التنوع الذي قد يبدو متناقضًا من بعيد، هو بالضبط ما يمنح الأوركسترا والكورال شخصيتهما: مجموعة من الأذواق والملامح الفردية، تنصهر في النهاية في بوتقة لحن وطني جامع.

موسيقانا كلها شموخ وهيبة ووقار
المثير في تجربة الأوركسترا والكورال أنها لم تختر الطريق السهل؛ لم تكتفِ بتأدية المقطوعات الكلاسيكية العالمية كما هي، بل وضعت الأغنية السعودية في قلب ريبيرتوارها، من أغاني محمد عبده وطلال مدّاح وحتى الألوان الشعبية مثل السامري والمجرور والمزمار الينبعاوي. كل ذلك أُعيد تقديمه بصياغة أوركسترالية حديثة تحتضن التراث وتمنحه أفقًا عالميًا. بدا واضحًا أن المشروع لا يتعالى على الفنون السعودية الشعبية، بل يفتح لها مسرحًا أكبر يجعلها مرئية ومسموعة في فضاء جديد.
الموسيقى السعودية تحمل في جوهرها "شموخًا وهيبة ووقارًا"، كما وصفها عازف القانون يزيد العايدي. وما فعله المشروع أنه أمسك بهذا الجوهر ووضعه في قالب كلاسيكي يتيح للعالم أن يسمع روائع الأغنية السعودية لعلهم يحبونها كما يحبها أهلها. لذا لم يكن الهدف تبديل الهوية، بل توسيع نطاقها لتصل إلى جمهور جديد.
نبني من الصفر.. لكن نبني قاعدة قوية
وسط هذا التعدد، يبرز صوت السوبرانو السعودية ريماز العقبي كخيط آخر يربط الحكاية. كلماتها تحمل وعيًا مزدوجًا: وعي ممزوج بالفخر كونها جزءًا من بداية تُكتب الآن لمشروع يغير وجه السعودية الثقافي، ووعي بالتحديات التي ما زالت قائمة، خصوصًا للنساء، في مشهد سريع التغير.
درست ريماز الأوبرا منذ الطفولة، ومنحتها الدراسة الأكاديمية علاقة أكثر صرامة بالموسيقى ورؤية من منظار أوسع للمشهد الذي تنصهر فيه. تقول: "يمكن دراستي للموسيقى من عمر صغير أعطتني منظور مختلف، وكيف يمكن أن تكون مهنة حقيقية بحياتي". وتضيف بنبرة واثقة: "نحن نبني من الصفر في السعودية، لكن نبني قاعدة قوية، بيئة يعيش فيها الموسيقي بكرامة ويصنع مستقبلًا واضحًا. الموضوع للبنات أصعب وأصعب، لكن الحمد لله صار في كل الفرص".
الحفل هو يوم العيد
في تلك الرحلة الطويلة التي تبدأ بالبروفات المرهِقة وتنتهي بتصفيق الجمهور، ووسط عمل ممتع ومضنٍ في ذات الوقت، تبرز العديد من اللحظات المميزة.
يقول حسن الماحوزي: "أمتع اللحظات هي الأيام الأخيرة قبل السفر، لما نجتمع أعضاء الكورال مع أعضاء الأوركسترا ونشوف الصورة الكاملة للعمل". بينما يصف نواف عبد الهادي لحظته الأجمل: "عندما يكون عندنا تحدي بجملة موسيقية صعبة، و40 شخص منغني بجزء من الثانية، ونجيب نفس العُربة، فلما نتوحد فيها كلنا هو أمتع شي بالنسبة لي". بينما يرى وهيب آل سالم أن اللحظة الأهم بالنسبة له هي الوصول للعرض: "يوم الحفل كأنه يوم عيد".
مع ذلك، يتفق الجميع على أن اللحظة التي لا تنسى خلال العروض هي لحظة النهاية عندما يقفون للتحية ويسمعون التصفيق. هذه اللحظة وصفها كل واحد من أعضاء الفرقة بلغته الخاصة. ولعل أجمل الأوصاف ما قالته روز: "أجمل لحظات العرض عندما يكتسي المسرح باللون الأخضر"؛ لتختزل بلون علم المملكة العربية السعودية مشاعر الفخر والاعتزاز بالوطنية والسعادة بإنجاز فردي وجماعي.

المملكة تكتب قصتها بصوت أبنائها وبناتها
في افتتاح عرض فرساي، وقف الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، وزير الثقافة السعودي، ليقول: "الثقافة قوة دافعة للتنمية المستدامة ومحرك أساسي في النمو الاقتصادي والاجتماعي، ومصدر إلهام للأجيال القادمة لبناء عالم أفضل يسوده الحوار والاستقرار والنماء".
حقًّا. لم يكن حضور "الأوركسترا والكورال الوطني السعودي" في قصر فرساي مجرد احتفال فني أو محطة عابرة في جولة عالمية، بل كان إعلانًا رمزيًا بأن السعودية صارت تكتب قصتها الثقافية بصوت أبنائها وبناتها. كل لحن، وكل صوت، كان بمثابة شهادة حيّة على تحوّل مجتمع كامل يفتح أبوابه للمستقبل من دون أن يتخلى عن جذوره. وحين يذوب أكثر من 100 موسيقي في صوت واحد، يصبح من الصعب التمييز بين الفرد والجماعة، بين الماضي والحاضر، بين المحلي والعالمي؛ ليتحوّل هذا المشروع إلى صورة مكثّفة لرؤية السعودية نفسها: رؤية تنبع من الداخل، لكنها تُخاطب العالم بثقة وإبداع.