كان المشهد استثنائيًا خارج مسجد السعادة بجدة في نهاية عام 1989: محمد عبده نجم الغناء السعودي رفقة مجموعة من كبار الشيوخ والدعاة، يتلو معهم بصوته العذب بضع آيات من القرآن، مغمضًا عينيه وكأنه غائب في معانيها. الصحفيون الذين تصادف وجودهم بالمسجد وقتها علموا أنهم على موعد مع "خبر الموسم"، خاصة بعد سلسلة من إعلانات الاعتزال المفاجئة التي طالت مجموعة ليست بالقليلة من معاصري عبده، ولأسباب متعددة.
ووسط ترقب من الجميع لإعلان مشابه، استأذن عبده بالانصراف لإحياء حفلة كان متعاقدًا عليها منذ فترة. لم يجد أحد تفسيرًا للمشهد، لكن قناعة سرت بينهم أن الأمر لا يعدو مشاركة من "فنان العرب" في واحدة من المناسبات الدينية التي لم يكن غريبًا عنها بأي حال. ما لم يتوقعه هؤلاء الصحفيون هو أن عبده لن يظهر علنًا بعد تلك الحفلة "الأخيرة" لنحو ثماني سنوات تالية.
اكتشف محمد عبده، وكأنما فجأة، أنه لم يتوقف عن الإبحار لثلاثين عامًا متواصلة. لقد أُرهقت روحه بفعل انقلابات المشهد، وظهور أجيال جديدة -متمردة- من المطربين والمستمعين، والأهم من ذلك مرض والدته التي ظلت عمودًا للبيت لعقود بعد وفاة والده وهو في الثامنة.
الوالد، الذي حُرم حتى من صورته الفوتوغرافية، كان بحارًا، وعندما شبَّ الطفل أراد أن يتشبه به، فدرس صناعة السفن. لكن الأمواج سيَّرته في اتجاه آخر، ومضى في رحلة لم تعرف الاستراحة منذ ظهوره الجماهيري الأول على مسرح الإذاعة بجدة عام 1963، طفلًا في الرابعة عشرة بصوت عاشق معذَّب. بعد تلك الحفلة الكارثية على حد قوله -حيث اختنق صوته من التوتر واستقبله الجمهور بفتور- أدرك عبده أن الأقدار تهيئه لأن يصبح نجم الأغنية السعودية في عصر ما بعد الاسطوانات؛ ما بعد طارق عبد الحكيم وعمر كدرس والشاعر إبراهيم خفاجي.
رحلة المفارقات
رحلة محمد عبده لم تكن إلا رحلة من المفارقات المتصلة، في مقدمتها أن يخرج ابن جازان ليتحول إلى ملك متوج على عرش الأغنية السعودية. أن يقضي طفولته متنقلًا بين مؤسسات لرعاية الأيتام، ويشبّ ليصبح واحدًا من أعلى المطربين أجرًا في عصره. أن يحفظ دُرر الموشحات اليمنية التراثية في مراهقته، وبعد أقل من عشر سنوات يصبح أول من يدخل الجيتار الكهربائي في أغنية سعودية خالصة عام 1974، مع أغنية "الرسايل".
مفارقات ربما كان مصدرها عشقه للمغامرات، رغم طبعه الذي يبدو محافظًا أمام الجميع. في المرحلة الإعدادية غامر بالغناء أمام مدير مدرسته، الذي أقسم على عقابه إذا كان صوته قبيحًا. غامر بترك مجال صناعة السفن -الذي يوفر له دخلًا مضمونًا- ليستقر مطربًا كوراليًّا خلف وديع الصافي في بيروت. غامر برفض الغناء بأي لهجة غير الخليجية. رفض فرصة ذهبية تمثلت في الظهور بين فقرات حفل لعبد الحليم حافظ في مطلع السبعينيات. لم يسعَ مثل منافسه طلال مداح لطلب لحن من موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب. غامر بالظهور ممثلًا في مسلسل "أغاني في بحر الأماني" (1969) في تجربة لم يسبقه إليها أي مطرب خليجي. دخل سوق الكاسيت منتجًا في وقت كانت مزاحمة السوقين المصري واللبناني فكرة جامحة؛ جامحة كمشروعه الأكبر من منتصف السبعينيات المتمثل في محاولة إطلاق شكل متكامل للأغنية الخليجية -على طريقة على إسماعيل في مصر والرحبانية في لبنان- يخرج بها من نطاق التخت الضيق إلى نطاق أوركسترالي طموح.
أنشودة المطر
مغامرات تليق ببحار لا يستقر. وفي الوقت الذي توقع فيه الجميع أن يرسو قاربه أخيرًا بعيدًا عن أراضي الفن عقب واقعة مسجد السعادة، وعندما كان يرافق أمه في أشهرها الأخيرة، كان عبده يخوض مغامرته الأكبر، حلمه القديم، محاولة تلحين قصيدته المفضلة عندما كان طالبًا في المرحلة الإعدادية: قصيدة "أنشودة المطر" للشاعر العراقي بدر شاكر السياب، التي اشتهرت بتحطيم مراكب الملحنين على صخورها.
محمد عبده الذي اشتهر بمزجه الألحان النبطية مع تيمات الساحل الشرقي عن معاناة صائدي اللؤلؤ في خروجهم لشهور طويلة بحثًا عن الرزق، مثلما في أغنية "يا مركب الهند"، أصبحت "معاناته" الحالية تلحين قصيدة يعلن فيها كاتبها حنينه الشديد لأم لم يرها، ويأس من أوطان لفظته، وأيديولوجيات أخرسته. مغامرة بأن يقضي فنان العرب أيام حداده الشخصي على مشروع بذلك الثقل العاطفي والفكري في سياق عرف بدايات توهج جنرا البوب العربية في شكلها الحديث مطلع التسعينيات.
استغرق محمد عبده عشر سنوات كاملة ليتمكن من إصدار "أنشودة المطر" على نحو يرضيه. وما اعتقده البعض رسوًّا على أراضِ بعيدة عن الفن، كان -في حقيقة الأمر- رحلة بناء لقارب أقوى، قادر على الإبحار لمسافات أبعد، عاد منها إلى تقديم الحفلات الحية لتتضاعف مبيعات ألبوماته السابقة في سنوات السي دي مع بداية الألفية الجديدة.
الموسيقيون صنَّاع سفن!
يقول عبده إن صناعة الموسيقى "تحتاج فريق مماثل لفرق صناعة السفن ، يدويًا ونفسيًا وذهنيًا، بحاجة دائماً إلى الشغيلة. وللأسف مازلت نظرة العالم العربي إلى الصناع طبقية متعالية، ولا يتم التعامل معهم إليها بالتقدير الكافي".
ربما كانت المهمة الأصعب بالنسبة لـ"فلتة زمانه"، كما وصف نفسه في تصريحات كثيرًا ما تثير الجدل، لكنها ليست مبالغة. مستكشف مغامر خاض رحلة استمرت على مدار 60 عامًا (و1000 أغنية) كانت لازمة لتغيير الخريطة الموسيقية لإقليم بأكمله من دون التخلي عن تقاليده. 60 عامًا كانت لازمة لتقديم مفهوم "السوبر ستار" في مجال كان يُنظر إليه حتى وقت قريب، اجتماعيًا واقتصاديًا، بكثير من التشكك.
أسطورة عبده الحقيقية أن قاربه ما زال يبحر رغم قطعه مئات الآلاف من الأميال. والمدهش هو تصور المدى الذي يمكن أن يصل له ذلك القارب في المستقبل، مع جيل جديد. يكفي أن نستمع إلى نسخة "أبعاد" التي أنتجت بأداء فريق "هارموني عربي"، بعد 60 عامًا من نجاته من العقاب البدني لمدير مدرسة كان يرى الغناء مشكلة أخلاقية، لا تُعفى منها إلا الأصوات العذبة.