لم يكن اللقاء مع أميمة طالب في باريس كأي لقاءٍ آخر، بل كان أشبه بفتح نافذة صغيرة على غرفة داخلية لا تسمح لأحد بالاقتراب منها عادة. أميمة التي عرفناها لسنوات؛ المرأة الواثقة الجميلة والهادئة، التي تنتقي كلماتها كما تنتقي نوتاتها، بدت في البداية كما توقّعنا: حضرت بصوتها المتماسك وابتسامتها الدبلوماسية لتعطينا إجابات مصقولة، كأنها خُرِجت من صندوق مخصص للإطلالات الإعلامية، فغلفت حديثها بتلك القشرة التي اعتدنا رؤيتها أمام الكاميرات، والتي غالبًا ما تحجب طبقة أعمق خلفها.
لكن تلك الدقائق الأولى من لقائنا معها في باريس، مدينة الحب، لم تدم طويلًا. كان للمكان سحره. كان للمسافة أيضًا أثرها؛ مسافة بعيدة عن ضجيج الحياة اليومية. فجأة، وبلا مقدمات، خرجت أميمة من الفقاعة الآمنة. تخلّت عن نبرة الفنانة التي تعرف تمامًا ما يجب أن تقوله، واستبدلتها بنبرة أخرى، أكثر دفئًا، أكثر هشاشة وأكثر صدقًا.
كيف وقعت أميمة طالب في الحب؟
تجلّى ذلك بوضوح عند الحديث عن الحب، قالت أولًا عبارتها المعتادة: إنها "منفتحة على الحب". ثم توقفت، نظرت بعيدًا للحظة، وكأنها تراجع قرارًا داخليًا، قبل أن تعود إلينا بابتسامة مُرتبكة قليلاً وتكشف أنها ليست فقط منفتحة على الحب، بل واقعة فيه. أرضت فضولنا ببعض المعلومات عن الرجل الذي اختارته: إنه فرنسي، التقت به صدفة في عملها.
تحدثت أميمة طالب عن الحب وكأنها تكشف سرًا خبّأته لسنوات، بعفوية تشبه المسودة الأولى لأغنية رومانسية: الرجل الذي وقعت في حبه لم يكن يعرف مسبقًا من تكون أميمة طالب، لم يقرأ عنها ولم يسمع أغانيها، أو يفهم لماذا يلتفت إليها كل من حولها. تحدثت مع ابتسامة صغيرة لم تفارق وجهها تحمل شيئًا من الخجل، وشيئًا من الفخر أيضًا. كانت هذه المرة الأولى التي يبدو فيها واضحًا أن أميمة طالب، خلف كل نجاحاتها، كانت بحاجة إلى علاقة لا ترى فيها سوى كامرأة، لا كنجمة.
اكتفت بهذا الكم القليل من المعلومات دون الإفصاح عن هويته، مع التأكيد بأنها ستبقى سريةً، ولم تذكر الكثير عن علاقتهما في الوقت الحالي، باستثناء أنه صار يسمع أغانيها الآن.
الغريب أن اللحظة التي اعترفت فيها أميمة طالب بالوقوع في الحب لأول مرة أمام الكاميرات لم تكن اللحظة الأكثر رومانسية خلال اللقاء، بل تجلّت بشكل أوضح عند حديثها عن عائلتها، وعن بلدها تونس وذكريات الطفولة. ولم تغِب اللمحات العاطفية حتى عند الحديث عن الجانب الفني؛ إذ بدا واضحًا أن كل ما في حياتها، مهما بدا منفصلًا، مرتبط بخيط واحد من الإحساس العميق.
أغنية "ست الحبايب" تكسر موجة البكاء
تحدثت أميمة عن تونس وكأنها تتحدث عن حبيب قديم لا يغادر الذاكرة، "يسكنها ولا تسكنه"، كما قالت؛ لتختصر بجملة واحدة علاقة مركّبة لا تُشبه انتماءً تقليديًا، بل تشبه إحساسًا يرافقها أينما ذهبت. بكت وهي تتذكر والدها الراحل، وبكت أكثر وهي تتحدث عن أمها؛ التي فقدت بصرها فأصبحت ترى ابنتها بأذنيها.
لم تنتهي موجة البكاء إلا بالغناء. طلبنا منها أن تغني، فاختارت "ست الحبايب" وغنتها بأداء يفيض حباً. غنت أيضا بالفرنسية والتركية.
ورغم أن الأحاديث في أغلبها كانت حميمية وشخصية في جوانب كثيرة، إلا أن حكاية أميمة الفنية كانت حاضرة دائمًا؛ فارتبطت ذاكرتها القاتمة عن موت أبيها برحلتها المثيرة لاحقًا بالأغنية الخليجية، واقترنت الأحاديث عن علاقتها الخاصة بأمها وشقيقتيها عن حياتها كفنانة وخصوصية عملها، واقترن الحديث عن وطنها بعلاقتها بالأغنية الخليجية.
أربع محاولات في برنامج المواهب … بلا مرارة
كما أن العديد من الذكريات التي استحضرتها من طفولتها كانت مرتبطة بالفن بشكل مباشر، باستعادتها لذكريات برامج المواهب ولقائها بالفنانة الراحلة وردة الذي شكّل لحظة لا تنسى، وعلاقتها الخاصة بالفنانة الراحلة ذكرى؛ التي كانت أشبه ببوصلة توجه رحلتها الفنية.
الحديث عن ذكرى كان الأكثر إثارة، ففيه استمعنا لامرأة تعرف كيف تحتفي بكل مرحلة من مسيرتها، فتحدثت بحب عن الفنانة التي اقتدت بها، و بافتخار بأنها كانت تجيد الغناء بطريقتها، قبل أن تتحدث، بشيء من الفخر أيضًا، عن تكوين شخصيتها الفنية لاحقًا.
وفي تلك التفاصيل الدقيقة يمكن التقاط شخصية أميمة طالب الأكثر جاذبية: إنها ليست امرأة رومانسية رقيقة فقط، بل امرأة ذات إرادة فولاذية، تشكّلت عبر سنوات طويلة من محاولات مستمرة لا يعرفها الجمهور إلا كمعلومات عابرة. أربع مرات وقفت أميمة على مسارح برامج المواهب، ولم تفز في أي منها باللقب، لكنها لم تتعامل مع الأمر يومًا كفشل، بل كمرحلة ضرورية في الطريق. كانت تبتسم وهي تتذكّر تلك التجارب، كأنها تُشاهد نسخة أصغر منها تتعثر وتنهض، وتتلقى الانتقادات وتكمل، دون أن تفقد يقينها بحلمها الذي تحقق في النهاية.
الطريق الطويل نحو أميمة طالب التي نعرفها اليوم
اللافت أنها لا تروي تلك الذكريات بثقل الذين مرّوا بصعوبات، بل بخفة الذين يعرفون كيف يعيدون كتابة الحكاية بطريقة أجمل. تتحدث عن التجارب والذكريات وكأنها تحكي نكتة صغيرة عن خوفها الأول. تحمل الذكريات القاسية بيدين خفيفتين، وتُحوّلها إلى مشاهد تمنحها القوة بدل أن تجرحها. وكأنها، مع الوقت، تعلّمت طريقة خاصة في النجاة: أن تلتقط من كل خطوة وعرة تلك اللمحة الصغيرة التي تستحق الاحتفاظ بها، وتترك الباقي وراءها دون ندَم.
ربما لهذا السبب، حين تتحدث أميمة عن مسيرتها اليوم، لا نسمع مرارة تأجيل أو حسرة عدم الفوز، بل نسمع صوت امرأة تعرف أن الطريق الذي مشته، بعراقيله ومغامراته، هو بالضبط الطريق الذي صنعها. امرأة لا تخاف أن تعترف بأنها وصلت متأخرة، لكنها وصلت أقوى، وأن ما ظنّه الآخرون تعثرًا كان بالنسبة لها بناءً بطيئًا لصوت لم يعد يشبه إلا نفسه.

