"لازم تخلي الناس يصفقولك"، عبارة لا تنساها نانسي عجرم من طفولتها. كان والدها قد وضعها على أول طريق الفن، وهيأ لها أن تغني أسبوعيًا أمام الجمهور. لكن قبل صعودها إلى المسرح، كان يحرص على تشجيعها -أو تحذيرها- بهذه العبارة: "لازم تخلي الناس يصفقولك وينبسطوا فيكي". عبارة تضغط على الطفلة التي لم تتجاوز العاشرة؛ مسؤولية تثقل كاهلها الصغير. عليها أن تجعل الناس يصفقون.. ولكن كيف؟
هكذا، فتحت النجمة قلبها لبيلبورد عربية، بعد إصدارها لألبومها الأحدث "نانسي 11". وصلت إلى جلسة تصوير الغلاف، فدخلت استديو محاطًا بالمرايا الدائرية، كل منها تلتقط زاوية مختلفة من انعكاس صورتها. لو وقفتَ في أحد الأركان، ترى صورتين لنانسي، فتتذكر غلاف ألبومها الجديد: نانسي الجادة التي أنضجها الزمن، ونانسي الضاحكة التي أسرت جمهورها بمرحها وشقاوتها. تقول إنها في مرحلة جديدة من مسيرتها، حيث تقف المرأة والفنانة أخيرًا جنبًا إلى جنب، في انسجام.
نجمة في طور الإعداد
لفهم المرأة والفنانة، والأم أيضًا، لا بد من العودة قليلًا إلى الوراء. إلى حقبة يتذكر فيها العالم العربي نانسي طفلةً بفستان أبيض منفوش وعينين زرقاوين، تغني بحماسة على المسرح أغنية زكي ناصيف "نقيلي أحلى زهرة يا فراشة نقيلي". ومهما تذكر الجمهور هذه اللحظة، ومهما تحدّثت عنها النجمة عبر السنوات في المقابلات وعلى الشاشات، تبقى ذكرى نانسي الطفلة ما يدفعها لأقصى لحظات التأثر، قبل أن تذكِّر نفسها بالنجومية التي تعيشها اليوم بفضل تضحياتها في عمر صغير.
تخبرنا بأنها لم تعش سنوات الطفولة والمراهقة مثل أقرانها. أمضت وقت فراغها بعد المدرسة في حفظ الأغاني وتعلم الموسيقى والتحضير للحفلات الأسبوعية التي سعى والدها بجدية لأن تغني فيها بشكل منتظم، لكي تكتسب الخبرة، وتفهم المسرح. تتحدث عن دور والدها قائلةً: "كان مآمن فيَّ.. ولهلأ. كان بدّه يحقق هيدا الشي فيَّ، يحقق حلمه هو اللي بيحلمه.. فيَّ. فهيك قطع الوقت وقطعت المراهقة وقطع العمر…" تتحدث بتأثر، ثم تستدرك بسرعة: "وماني ندمانة".
لكن، ليست التنشئة وحدها ما وضع نانسي على هذا الطريق. ثمة شيء أكبر في شخصيتها وطباعها، ومؤخرًا طريقة حديثها وتواصلها مع محيطها، لا يعرف الانهزام. تحاول أن تحلل الأمر فتنسبه لبرجها الفلكي، الثور، أو للناس من حولها: "بيقولولي عنيدة"، وكأنهم هم من يقولون وهي ليست متأكدة تمامًا. لكن المنطق العام سيؤكد رأي من حولها، فأي إنسان يمضي مجمل حياته في مجال الفن لا بد من أن يتحلى بالكثير من العناد والإصرار، فكيف إذا كان فنانًا أمضى معظم حياته في القمة.
هذا العناد ساعدها عندما وقفت على مفترق طرق في سنوات مراهقتها. فبعد ألبومها الأول "محتجالك" وهي في سن الخامسة عشر، ثم ألبوم "شيل عيونك عني" بعده بثلاث سنوات، وتحقيقها لنجاح وانتشار محدود، قررت أن عليها أن تجد لنفسها بنفسها طريقًا إلى النجومية، أو فلتترك ذلك الأمر وتبحث عن شيء آخر تتقنه. "وصلت وقتها لمرحلة… أنا ماني مش مشهورة، وماني مشهورة كتير. وصلت لوقت النص-نص. وأنا ما بحب النص-نص… أبدًا!"، وتشدد على كلمة أبدًا بحزم، قبل أن تتابع: "أنا إذا بدي أعمل شي أو انجح بشي أو عندي هدف معين.. بدي أوصله!".
ما بعد القرار
ثم صدر ألبوم "يا سلام" عام 2003، وانفجرت نجومية نانسي عجرم. منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، كانت نانسي نجمة البوب الأكثر بريقًا في الأغنية العربية. أحاطت بها الأضواء وعدسات الكاميرات من كل اتجاه، وعانقتها هي بترحيب. لا نذكر عامًا واحدًا - أو حتى أشهر قليلة- غابت فيها أو تراجع أداؤها أو شعبيتها أو حضورها، حتى بعد زواجها وإنجابها لبناتها الثلاث.
11 ألبومًا، وألبومان لأغاني الأطفال، وحضور إعلامي دائم، ونشاط حفلات كثيف لا ينقطع. يكفي أن نعرف أن نانسي لا تعلن عن جولات عالمية لحفلاتها لأنها تجوب العالم، شرقه وغربه، على مدار العام. خلال المقابلة مثلًا، تحدثت نانسي بحماسة عن حفلها الأخير في الرويال ألبرت هول في لندن، علمًا أنها ليست المرة الأولى التي تغني فيها على خشبة المسرح العريق. كما تحدثت بسعادة عن جماهيرها الكبيرة في الشرق الأقصى، في بلدان مثل أندونيسيا وكوريا وغيرها، وعن عزمها القيام بجولة حفلات في أندونيسيا قريبًا.
اليوم، يشاهد الجمهور صور بناتها الثلاث؛ يتأمل وجوههن، ويعلّق بأنهن نسخ من والدتهن في طفولتها. بالطبع؛ فالجمهور عرف نانسي وحفظها في كل مراحلها، حيث كبرت ونضجت أمامه على الشاشات، حتى حين كانت بعض هذه المراحل تنساب من بين يديها هي دون أن تشعر.
في لحظة غير متوقعة، سألنا نانسي أن توجه نصيحةً لنفسها في طفولتها، فلاذت بالصمت. صمت أربك كل من كان في موقع التصوير. وغابت نظراتها لتفتش عن الإجابة في الذكريات البعيدة. "يمكن كان فيَّ كون حرة أكتر" تعلن أخيرًا. ثم تستطرد: "كان فيَّ كون حرة بالتعبير أكتر. في أوقات لمَّا تعبَّري بتخلصي من الشي بسرعة وبتتجاوزيه".
حرية التعبير عن النفس، هذه، انتزعتها نانسي عجرم في مراحل لاحقة؛ ليس فقط لنفسها، بل منحتها أيضًا لبناتها الثلاثة. فعلت ذلك بالفن، وبالغناء، وبالإصرار على النجاح، حتى عندما كان الثمن باهظًا في بعض الأحيان.
