أربعون عامًأ أو يزيد استطاع خلالهم الموسيقار راجح داوود، أن يترك بصمته المميزة في مجال تأليف الموسيقى المصاحبة للأفلام والدراما. وضع ذلك بأسلوب، خاص وفريد. ومهما اختلفت جُنرا العمل، سواء كانت دراما أو كوميديا أو جريمة أو غيرها، فلديه دائمًا طريقته الخاصة في التعامل معها.
يعتمد تحليل موسيقى داود على التركيز في التفاصيل، وقد تلقّت الكثير من مقطوعاته انتقادات عند صدورها لأول مرة بسبب هذا الأسلوب. ولعل أبرز مثال على ذلك مقطوعة "بسكاليا" المصاحبة لفيلم الكيت كات (1991)، التي لاقت انتقادًا لاذعًا فور صدور الفيلم، لكنها استطاعت لاحقًا أن تفرض نفسها كإحدى الكلاسيكيات حتى اليوم.
نعيد في هذا التقرير النظر في 5 من أشهر أعماله. بمناسبة تكريمه ضمن فعاليات مهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير. مدققين في تفاصيل مختاراتنا، لنصل إلى الأسباب التي جعلت تلك المقطوعات تحفر أثرًا في الذاكرة الثقافية المصرية والعربية.
فيلم الكيت كات – 1991
تعد موسيقى هذا الفيلم واحدة من أهم أعمال راجح داوود وأكثرها إثارة للجدل، بسبب استعماله إيقاعات غربية وكلاسيكية في فيلم مستوحى من رواية "مالك الحزين التي تستمد عالمها من أعماق الحارات الشعبية المصرية.
اختار داود أن يترك التعبير عن العالم الشعبي للأغاني الموجودة في الفيلم من قصائد لصلاح جاهين وسيد حجاب، بينما ركّز هو على الأبعاد النفسية الداخلية للشخصيات وصراعاتها. استخدم الأورج بطريقة استغراقية تشبه الموسيقى الكلاسيكية الجنائزية، تاركًا مساحة لوقع كل ضغطة مفتاح وصداها، ليصبح وكأنه فضاء يحوم فيه عزف العود الشرقي المعبّر عن حزن ووحدة الشخصيات.
فيلم أرض الخوف – 2000
يقول راجح داوود في حواره مع منى الشاذلي إنه حين كان يصمّم موسيقى فيلم أرض الخوف لم يكن متأكدًا إن كان ما يفعله صائبًا أم لا. فقد ابتكر حالة شديدة الذهنية لعالم حركي حيوي يعبر عنه عادة بإيقاعات سريعة وعنيفة. اعتمد بشكل أساسي على عزف خالد صبري لآلة "البان فلوت" التي تقترب من روح الموسيقى المصرية القديمة، وأضاف إليها أداءً غنائيًّا يعتمد على الهمهمة، أو كما سماه "الغناء العفاريتي"، لأنه لم يكن يعرف كيف يصنّفه. هذا الغناء قريب أيضًا من الأدعية والتوسلات في الحضارات القديمة.
تمكنت هذه التوليفة، مع أوركسترا الشيلوهات، من خلق تصور صوتي موحش يشبه عالم البطل؛ تعبير يصيب داخله النفسي وهو حائر لا يدرك وجهته في عالم مليء بالأسرار الغامضة والخطرة.
مواطن ومخبر وحرامي – 2001
يواكب داوود حالة التناقض الكوميدية لدى الشخصيات الثلاث الرئيسية بعزف خاطف غير مكتمل لأوتار الكونترباص، في مقابل إيقاع سريع ومتكامل لعزف الكمان الجماعي. ويحقق وقع الأوبوا المتدرّج في ارتفاع صوته توازنًا بين الصراع القائم بين الآلتين الرئيسيتين طوال المقطوعة.
حلم العمر – 2008
لا يأتي اختيار موسيقى فيلم حلم العمر لأنها أحد أهم أعماله الكلاسيكية أو الأكثر انتشارًا جماهيريًا، فقط. بل لأنها من الأعمال التي تخلى فيها داوود بشكل كبير عن أسلوبه المعتاد. بمرونة تخدم طبيعة الفيلم. صنع توليفة حماسية تجمع بين البايس درامز والأوبوا، متلاعبًا بإيقاع الدرامز عبر التقطيع غير المتساوي، وكأنها رحلة متعثرة بين الصعود والهبوط. ويضيف إليها وقع البايس جيتار الذي يمنح إحساسًا بالشحن والتحفيز الزائد عن الحد.
رسائل البحر – 2010
يترك داوود في بداية المقطوعة مساحة للفراغ لخلق صدى مميز يتقاطع مع ارتباط الفيلم وثيمته بالبحر والمساحات الليلية الهادئة غير المزدحمة. ويواكب العزف المشوش للناي إصابة البطل بالتلعثم (التأتأة). يتتابع عزف العود مع ريفّات الجيتار ليعكس المزيج الوجداني والطبقي الذي يتنقل فيه الفيلم بين المناطق الشعبية والراقية في الإسكندرية. أما استخدام الأكسيلوفون فيمنح وقعًا يشبه الدق على الزجاج، إيحاءً بالهشاشة.






