خمس وعشرون عامًا مرت على صدور ألبوم "تملي معاك"، أحد الألبومات الأيقونية التي غيرت وجه الأغنية المصرية في القرن الحادي والعشرين.
إذا كان ألبوم "شبابيك" لمحمد منير (1981) يمثل بداية عصر الأغنية المصرية الحديثة، فـ "تملي معاك" لعمرو دياب (2000) هو البداية الحقيقية لموجة الـ"نيو بوب" المصرية، عبارة قالها لي الموزع طارق مدكور الشريك الرئيسي في هذه التجربة وأحد رواد هذه الحقبة البارزة في مشوار صناعة الأغنية.
صدر "تملي معاك" مشحونًا بالعديد من التفاصيل التي غيرت وجه الصناعة، بداية برفع شركة "عالم الفن" سعر شريط الكاسيت ليصل إلى 10 جنيهات كأغلى ألبوم في السوق, ولم يكن هذا السعر الجديد من فراغ، فقد ضم الألبوم عشر أغنيات بدلًا من ثمانية في سابقة هي الأولى في تاريخ صناعة الكاسيت بمصر.
من مغني إلى "صاحب رؤية"
تصدر غلاف الألبوم عبارة "رؤية فنية لعمرو دياب وطارق مدكور"، في سابقة هي الأولى أيضًا حيث يعلن مطرب لجمهوره أنه صاحب الرؤية الفنية لأعماله بمشاركة واحد من رفقاء مسيرته وأهم موزعي المرحلة.
غير أن هذه الشراكة جاءت بعد مفارقة غيرت وجه الألبوم بالكامل.
كان عمرو دياب يعتزم التعاون مع الموزع والمُنتج البريطاني مارك تايلور بغرض محاكاة القوالب الموسيقية الجديدة في العالم. وكان تايلور قد قدم مجموعة من الهيتات العالمية، مثل "Bailamos" لإنريكي إغليسياس، كما تعاون مع المغنية شير في أغنية "Believe" التي أدخل فيها تقنية "الأوتوتيون" في صناعة موسيقى البوب. وهي التقنية التي استخدمها طارق مدكور -في العام التالي- في أغنية "أنا" ضمن ألبوم "قمرين" في صيف 1999.
سافر عمرو دياب برفقة المنتج محسن جابر إلى لندن للإتفاق مع تايلر، لكن الاتفاق لم يتم لسببين: الأول إنتاجي، حيث تبين أن تكلفة توزيعه لأغنية واحدة تساوي ميزانية إنتاج ألبوم كامل، بحسب ما ذكره لي طارق مدكور لاحقًا.
أما السبب الثاني والأهم فهو فني بحت، حيث رأى عمرو خلال النقاشات أن موزعًا بهوية غربية خالصة لن تستسيغ أذنه ألحانًا شرقية من مقامات مثل الكرد والنهاوند والصبا، وبالتالي ستخرج مشوهة، ولن تحقق الرؤية المطلوبة التي تمزج بين القالب الموسيقي الغربي والروح الشرقية.
هكذا، كان طارق مدكور الخيار الأنسب، سواء لنجاحاته السابقة مع الهضبة، أو لثقافته الموسيقية الغربية ومواكبته لبرامج التوزيع والمكساج ومكتبات الأصوات الحديثة المستخدمة وقتها في الخارج.
شهادة ميلاد جيل عمرو مصطفى
مثَّل ألبوم "تملي معاك" إنطلاقة فنية لجيل الألفية من الشعراء والملحنين الشباب في مصر، إذ كتبت أسماء عديدة شهادة ميلادها في هذه الأغنيات، مثل الشعراء أمير طعيمة وربيع السيوفي وأحمد علي موسى. إلى جانب أسماء أخرى سبقتهم بسنوات وأكدت تألقها في هذا العمل، مثل أيمن بهجت قمر ومحمد رفاعي، وكذلك المخضرم بهاء الدين محمد. ومن الملحنين تصدر المشهد الصاعد بقوة وقتها عمرو مصطفى، ومعه شريف تاج ووليد سعد وعصام كاريكا. علاوة على مشاركة عمرو دياب نفسه كملحن ضمن الألبوم.
الطريف أن هذا الألبوم يمكن وصفه بألبوم "الأغاني التساؤلية"، نظرًا لكثرة الأغاني التي حمل عنوانها سؤالًا، وبالتبعية تضمنت كلماتها تساؤلات. مثل افتتاحية الألبوم "العالم الله"، "وكده عيني عينك؟!" ، "وهي عاملة إيه؟"، "أعمل إيه؟"، "لو كان يرضيك؟"، حتى "قلبي اختارك" انتشرت جماهيريًا باسم " عارف ليه أنا قلبي اختارك؟".
ربما كانت صدفة، خاصة أن التركيز الأساسي في صناعة الألبوم انصب على بناء الأشكال الموسيقية. عملية معقدة ومرهقة قال لي الموزع طارق مدكور إنها احتاجت شهورًا طويلة من التجريب والمحاكاة والتعديل في الألحان وربما قوافي الكلمات، لكن الهدف منها كان إثبات أننا قادرون على صناعة نفس مستوى الموسيقى التي يقدمها ريكي مارتن، ومارك أنتوني، وإنريكي إغليسياس وغيرهم.
"تملي معاك" .. أغنية تدشين الألفية الجديدة
"تملي معاك" هي أول أغنية سجلها عمرو دياب في الألبوم، من ألحان شريف تاج. أما كلماتها فكانت أول تجربة للشاعر الراحل أحمد علي موسى. أرسل موسى، الشاب ذي الثمانية عشر عامًا وقتها، الكلمات في رسالة بريدية على عنوان منزل عمرو دياب، وذيَّل الرسالة باسمه ورقم هاتفه. انجذب عمرو لكلمة "تملي" باعتبارها كلمة مصرية خاصة ذات جرس جذاب، وقد سبق لمحمد فوزي أن غنى أغنية شهيرة اسمها "تملي في قلبي". من جهة أخرى، فقد عُرف عن عمرو حرصه على توجيه رسائل ضمنية في عناوين ألبوماته، وفي هذا الألبوم كانت عبارة "تملي معاك" تعني: أنا معك دائمًا يا جمهوري العزيز.
وزّع طارق مدكور الأغنية في قالب أقرب إلى "الرومبا فلامنكا" -وهو مزيج بين موسيقى البوب اللاتينية التي تعتمد على الغروفز (Grooves) الإلكترونية وبين موسيقى الفلامنكو القائمة على الجيتارات الإسبانية والتصفيقات والآلات الحية- وافتتحها بصولو الجيتار الشهير كجملة موسيقية "خالدة" جعلتها مصدرًا لإلهام عشرات المطربين في مختلف أنحاء العالم ممن أعادوا تقديم عشرات النسخ منها بلغات مختلفة، من أقاصي شرق آسيا وحتى أمريكا اللاتينية.
الجدير بالذكر، أن الأغنية مازالت بين أكثر الأغاني العربية استماعًا بشكل أسبوعي حتى يومنا هذا. إذ تحضر على قائمة بيلبورد عربية الرئيسية هوت 100 بشكل ثابت وفي مرتبة متقدمة -تظهر في معظم الأسابيع ضمن المراتب العشرين الأولى- منذ إطلاق القوائم قبل 81 أسبوعًا.
خلطة موسيقية ضد الزمن!
في لقاء جمعني بالفنان حميد الشاعري قبل نحو عشرين عامًا، قال لي إن ألبوم "تملي معاك" هو أفضل ألبومات عمرو دياب على المستوى الموسيقي حتى وقتنا -يقصد بالطبع تاريخ لقائي به. لم يكن حميد مبالغًا في شهادته بحق زميله طارق مدكور، فما فعله الأخير كان أشبه بطبخ خلطة موسيقية لا تتأثر بعوامل الزمن!
يحسب لطارق مدكور أنه تخلى بشكل كبير عن قالب المقسوم الذي سيطر على البوب المصري التسعينياتي، فاكتفى بثلاث أغنيات فقط من هذا القالب وهي "أعمل إيه" ، و"لو كان يرضيك" و "كدة عيني عينك". وحتى هذه الأغاني منحها نكهة مختلفة، فاستعان مثلًا بعازف القانون التركي أي تاتش ليعزف الفاصل الموسيقي في أغنية "أعمل إيه" بتقنية عزف مختلفة تمامًا عن المدرسة المصرية المعتادة .
في "العالم الله" مزج بين الإيقاعات اللاتينية والطبول الإفريقية، ثم زخرفها بخطوط من الوتريات التركية وشُحنة من تفعليات الجيتارات الإسبانية. وفي "وهي عاملة إيه" قدم دياب ومدكور تركيبة موسيقية مدهشة بين اللاتين بوب والإيقاع النوبي، حتى أنه استخدم كوردات الجيتار لتعزف نفس إيقاعات الدفوف، وغلَّف ذلك بصولو كمان ليحيى الموجي مفعم بالشجن.
وفي أغنية "قلبي اختارك" استحضر الثنائي شخصية عازف الجيتار كارلوس سانتانا الذي اشتهر بأسلوبه المتفرد في عزف صولوهات الإلكتريك جيتار، فقدما نسخة مصرية مُتقنة من توزيعاتها القادمة من رحم موسيقى التانجو.
عشر أغنيات كل منها قدم شكلًا موسيقيًا عالميًا، مثل أغنية "بعترف" التي بدت كمحاكاة موسيقية لأغنية "my baby you" لمارك أنتوني، وأصبحت سريعًا الأغنية الرسمية لرقصة العروسين في حفلات الزفاف.
وأخيرًا تختتم الألبوم برائعة موسيقية هي "صعبان عليا"، التي مزجت لأول مرة بين موسيقى الـ"آر آند بي" و إيقاع المقسوم الصعيدي، فخرجت في شكل يشبه فن العديد المعروف في جنوب مصر، ولكن بصورة عصرية تتصدرها الجيتارات والبيز والأصوات الإلكترونية، وصاغ شريف تاج لحنًا من مقام الصبا وكأنه يُقدم مرثية لقصة حب انتهت.
"تملي معاك" ألبوم أتم عامه الخامس والعشرين، لكنه وكأنما لُقِّح بإكسير شباب منحه قدرة على البقاء. ولعله لا يختلف في ذلك عن شخصية صانعه نفسه، الفنان القادر على مبارزة كل موجات الموسيقى الجديدة.