لم تكن سميرة سعيد منذ بداية صعودها مطربة أخرى تردد أغانٍ رومانسية، بل شيَّدت عبر مسيرتها الطويلة صورة متكاملة لامرأة من نار وحرير؛ امرأة حديدية لا تنكسر، حتى عندما تغني عن آلام الحب ولحظات الانكسار.
منذ بداياتها في المغرب ثم انتقالها إلى مصر، أدركت سميرة أن ترك بصمة مُستدامة في عالم الفن يتطلب أكثر من الصوت الجميل، وينبغي أن يقترن بموقف وشخصية فنية خاصة تُبنى بعناية، وهو ما نجحت فيه عبر مسيرتها التي تمتد لأكثر من خمسة عقود.
في السبعينيات، لم تكن القاهرة تفتح ذراعيها بسهولة للوافدين من الخارج ممن يطمحون لاختراق عالم الأغنية المصرية، وكان النجاح يتطلّب معايير عالية في الصوت وإجادة الأغاني الطربية الكلاسيكية. خاضت سميرة أولى معاركها الفنية لتشق طريقها في الأغنية الطربية، ورسمت معها ملامح شخصيتها الفنية الخاصة، التي تمزج بين الأنوثة والقوة؛ شخصية حافظت عليها وطورتها خلال رحلتها الفنية الطويلة، التي مالت خلالها مع رياح التغيير، لتقدم عبرها أغانٍ عصرية مع تحولات جذرية تُجاري فيها الزمن بالألحان والتوزيعات الموسيقية، ولكنها تتسق مع شخصية سميرة سعيد كامرأة حديدية.
وجهان للمرأة الحديدية
بدأت سميرة سعيد في رسم ملامحها الفنية الخاصة مع أغنية "قال جاني بعد يومين" (1982) التي تعاونت فيها مع الشاعر الغنائي عبد الوهاب محمد والملحن جمال سلامة. في هذه الأغنية الدرامية لا تبدأ سميرة الحكاية من لحظة الحب، ولا من لحظة الفراق، بل من بعد كل شيء: من تلك اللقطة المحمّلة بالتوتر والكرامة والاحتمالات المفتوحة، رجل يعود إلى المرأة باكيًا، فلا تستمرئ المرأة دور الضحية، ولا تضعف مع الدموع وتغرق في دوامة الحزن، بل تبدو أكثر قوة وحدّة من صورة المرأة بالأغاني العربية التي كانت تُعاصرها.
ورغم أن المشهد لا يكتمل على النحو المثالي الذي كانت تُعدّه بخيالها، كما توحي الكلمات: "وأنا اللي كنت فاكرة إنه هيشتكي من بُعدي/ فاجأني بقصة تانية ضيّعت الحلم الوردي/ وأنا اللى كنت فاكرة إنى وحدي اللى فى قلبه/ أتارى واحدة تانية جت فى ثانية شغلت قلبه أوام"؛ إلا أن اكتشاف الحقيقة المؤلمة لا يجعلها تنكسر، بل تبدو أكثر قوة وصلابة مع تصاعد الأغنية، لتخلق انطباعًا بجبروتها مع تصاعد صرخاتها حتى النهاية، وكأنها امرأة تزأر.
وإذا كانت "قال جاني بعد يومين" قد رسّخت صورة المرأة التي لا تنكسر في لحظة الخذلان، فإن "مش هاتنازل عنك أبدًا" (1987) تُقدّم الوجه الآخر لتلك المرأة نفسها، عندما تُحبّ، وتُدافع عن حبّها بكل ما تملكه من شراسة وإصرار. في هذه الأغنية التي كتبها عمر بطيشة ولحنها جمال سلامة، لا نجد المرأة المُنهكة أو المستسلمة لقدرها، بل نراها تُمسك بزمام القرار، وتحدّد مصير علاقتها. ومع أن الأغنية في ظاهرها تعبّر عن تمسّكٍ عاطفي، إلا أنها تعبّر في العمق عن مبدأ لا يُساوم: رفض الهزيمة، وعدم قبول الانسحاب، حتى في الحب. لا تتوسّل المرأة هنا البقاء، بل تُعلنه، وليس من ضعف، بل من امتلاك داخلي كامل. وفي طريقة أدائها، تشحن سميرة سعيد الكلمات بنبرةٍ لا تعرف الذلّ، لتبدأ بأداء رقيق ويتصاعد تدريجيًا مع روح الإصرار والتحدي.
سميرة التسعينيات
بينما كانت الأغنية العربية تمر بتحول مفصلي في مسارها في التسعينيات، اختارت سميرة سعيد أن تمضي في طريقها نحو التجديد، دون أن تتخلّى عن جوهرها. كانت تلك الفترة، بلا شك، المحطة الأكثر حسماً في إعادة تشكيل صورتها الفنية، حين بدأت تُفكك هيمنة الطرب التقليدي وتبني لنفسها مكانًا في قلب الأغنية الشبابية المعاصرة. تعاونت في بداية العقد مع موزعين مثل طارق عاكف ويحيى الموجي، منحوا أغانيها طابعًا شرقيًا غنيًا بخطوط الوتريات الكلاسيكية، ليأتي التحوّل تدريجيًا ويكتمل في نهاية العقد، مع ألبومي "عالبال" و"روحي"، حيث بدأت تتخذ خطوات أكثر جرأة نحو عالم البوب، بتوزيعات أقرب إلى النموذج الغربي.
ومع كل هذه التغيّرات الشكلية، لم تتخلَّ سميرة أبدًا عن الجوهر: تلك الصورة التي صاغتها لنفسها كامرأة قوية لا تُكسر. ففي أغنية مثل "ما بحبّش الخصام" (1992) تعلو نبرة الأنا، وتتجلى بوضوح رغبتها في فرض ذاتها داخل العلاقة، لا بوصفها تابعًا عاطفيًا، بل كقوة متساوية أو حتى متقدمة على الرجل؛ هي لا تُغني لتستعطف، بل لتُعبّر عن موقفها ورأيها في شكل العلاقة، التي يجب ألا تكون مشروطة بالتنازلات. وحتى عندما تسللت مشاعر القلق أو التردد في أغاني مثل "خايفة" (من الألبوم نفسه)، كانت المخاوف وجودية ومستقبلية، نابعة من وعي الذات، لا من تبعية عاطفية لرجل أو علاقة؛ لتبدو سميرة سعيد كامرأة تتساءل وتُقلقها الاحتمالات، لا لأنها ضعيفة، بل لأنها تفكر وتزن وتقرر. وحتى في الأغاني التي قد تبدو استثناءً، مثل "ما ليش غيرك" فإن النبرة ليست استسلامًا، بل تعبير عن لحظة شعورية عابرة لا تُلغِي استقلاليتها تمامًا.
مصدر إلهام للنساء
مع بداية الألفية، لم تعد سميرة تكتفي بتقديم صورة المرأة القوية كجزء من سرد عاطفي، بل بدأت تتحوّل هذه القوة إلى هوية مركزية في أعمالها. وتصاعدت الحدة مع ألبوم "قويني بيك" (2004)، وتجلت في أبهى صورها في أغاني الانفصال في الألبوم، ولاسيما "بالسلامة" و"قال إيه". ففي "بالسلامة" تتلقى قرار الانفصال بلا مبالاة، وتلوح بيدها للوداع مع إيقاع صاخب وصوت يعكس جبروتها، لتنتهي العلاقة بلا دموع. وفي "قال إيه" تستهين بتأثير الانفصال العاطفي على حياة المرأة: "دي حكاية بمنتهى البساطة/ هتعب يادوب يومين تلاتة".
ومن بعد ألبوم "قويني بيك"، صارت شخصية سميرة سعيد الفولاذية أكثر وضوحًا، وصارت تُقدم أفكارها بطريقة أكثر مُباشرة، لتُصدر أغاني ستبقى علامة فارقة بالأغنية العربية إذا ما قيست بالمعايير النسوية؛ لعل أبرزها "ما حصلش حاجة" (2015)، التي تُحجِّم فيها تأثير غياب الرجل؛ لتتحول ضحكتها التي تطلقها في بداية الأغنية -مستهزئة بها من كل الصور النمطية عن ضعف المرأة- إلى مصدر إلهام للنساء المُستقلات في العالم العربي.
*مقال ضمن سلسلة "ملوك البوب في العالم العربي" التي تحتفي بأسماء من مصر والخليج، ومن بلاد الشام والعراق والمغرب الكبير، حافظوا على نشاطهم الفني طوال أربعة عقود، ونسترجع مع القارئ مشاهد بارزة في مسيرتهم المهنية.