يعتمد حمزة نمرة في مسيرته على منهجين طبَّقهما هذه المرة كعادته. المنهج الأول معنيّ بالكلمة، فخرج كعادته من ملعب الرومانسية الضيق ليحلق في فضاء الموضوعات الاجتماعية. فبالإضافة إلى تعقيدات الحب، يغني للهم الإنساني، والغُربة، ويسخر من نماذج مستفزة، ويطرح تساؤلات فلسفية تجاه الحياة. كل هذا في سياقات تمنح المستمع خيارات أكثر عمقًا لتلقي كل أغنية بعيدًا عن قولبتها في علاقة الرجل والمرأة.
أما المنهج الثاني فمعني بالموسيقى كوسيط متنوع لنقل هذه الأفكار المكتوبة، بفلسفة تدمج التراث الموسيقي الشرقي بالقوالب الموسيقية الغربية في سلاسة لا تحمل إي إدعاء بالتطوير أو الشعارات الرنانة التي يرددها كثير من الفنانين دون رؤية فنية واضحة.
لهذا ليس غريبًا أن يكون ألبوم "قرار شخصي رقم واحد " أحد أفضل ألبومات الصيف على المستوى الموسيقي، لفنان لم يكتفِ بالغناء، بل شارك في تلحين وتوزيع أغلب أغانيه وكأنه مُخرج لهذا المشروع.
رؤية فنية تعكس ثقافة موسيقية
تفاصيل عديدة تدل على وضوح رؤية حمزة لمشروعه في كل أغنية، منها على سبيل المثال تناسب اللحن مع الكلمات. إذ يعتمد في ألبومه الجديد على أربعة مقامات معبِّرة موسيقيًا عن الكلمات؛ فالشجن الذي يُوحي به مقام الكرد حاضر في أغاني بهذا الاحساس مثل ("شيل الشيلة"، "كله على الله"، "وافتكر"، "طال غيابك"، "كدة الأيام")، أما النهاوند المناسب للأجواء العاطفية فيظهر في أغنيات تعكس هذه الحالة مثل ("شمس وهوا"، "عزيز عيني"، "ما بتلاقينيش")، بينما مقام البياتي الشرقي كان الأنسب للأغاني الشعبية مثل ("اتخمينا"، "بتستخبى")، وأخيرًا يأتي مقام الحجاز ذو الهوى الأندلسي ليتسيد لحن أغنية "قرار شخصي رقم واحد".
افتتاحية ساخرة
يفتتح حمزة نمرة ألبومه بأغنية "شمس وهوا" من كلمات ولحن وتوزيع خالد عصام. تتناول الأغنية فكرة الخلاص من "علاقة سامة" برؤية ساخرة، دون التورط في تحديد هوية طرفيها، فتبدو مناسبة لعلاقة عاطفية، أو صداقة، أو حتى علاقة مرؤوس برئيسه، مستخدمة مفردات من الواقع مثل "مش هنعمل محتوى" أو "طار وريَّحنا وغار".
لحن من مقام النهاوند غلّفه توزيع يستحضر إيقاع الملفوف الليبي في الدفوف قبل أن يأخذ مُنحنى موسيقى الريجي اللاتينية بإيقاعات إلكترونية.
في أغنية "ياعزيز عيني" يستلهم حمزة اسم أغنية سيد درويش الشهيرة، التي غنتها أيضا نعيمة المصرية في عشرينات القرن الماضي، إلا أنه يقدم هنا رسالة عتاب، ولو أن الكتابة بضميري الحاضر والغائب معًا لم تكن موفقة، إذ تُشتِّت المستمع بين الكوبليهات. أما التوزيع فاعتمد الفلامنكو الإسباني، مع صبغة تركية بتآلفات لآلة "الجُمبُش" وخطوط الوتريات.
روح "تركية" وشجن متكرر
تتلبس الهوية التركية الألبوم مع أغنية "كله على الله" التي انتقل بها حمزة كموزع إلى أجواء تذكرك بتترات المسلسلات التركية، بخطوط الوتريات مع صولو مميز لآلتيّ العود والجُمبش التركي.
كلمات خالد عاصم تتناول فكرة التوكل على الله رغم الإحباط، وصاغها بمفردات مُلفتة من العامية المصرية وبحرفية في القوافي. وتتكرر فكرة الهم الإنساني أيضًا في أغنية "شيل الشيلة" من كلمات محمود عبد الله ولحن محمدي؛ أغنية تبدأ بشرح حالة صاحبها ومعاناته مع الحياة، ثم يسيطر عليها العتاب والغضب وهو يدعو الناس لتجربة معاناته وحمل همومه الشاقة بدلا من حسده.
ثم تتواصل سلسلة الشجن في أغنية "ياسهرانين" كلمات محمد شافعي ولحن شرقي مميز لحمزة نمرة وأندريا مينا، زخرفته فواصل من تقاسيم العود والناي.
شعبي ساخر و"سمسمية" بورسعيدي
بعد تجارب سابقة ناجحة يعود حمزة نمرة لتقديم اللون الشعبي في أغنية "اتخمينا"، التي قدمت مفردات شعبية مصرية كتبها فلبينو، مثل (فرشنا الأرض ورد) و(علقنا زينة لولاد اللذينا) و (نسحب ورق ونلبس في شايب). كلمات تماشت مع لحن من مقام البياتي، وتوزيع موفق لعمرو الخضري معتمدًا على الإيقاعات الاليكترونية التي زينها صولو "مزمار كيبورد" شعبي.
ثم نأتي إلى واحدة من أفضل أغنيات الألبوم وهي "بتستخبى" من كلمات محمود فاروق، ولحن حمزة نمرة.
أغنية متكاملة كل عنصر فيها متسق مع العنصر التالي بداية من الكلمات التي تسخر من مُحدِثي النعمة المختبئين خلف الثروة والسلطة، حيث يفتتح الأغنية بعبارة : (ولاد الناس الشبعانين معروفين/ والمدعين المحدثين مفقوسين).
عّبر حمزة عن الكلمات بلحن من مقام البياتي، ثم جاء التوزيع ليحيي المقسوم السواحلي المصري مع صولو رشيق من آلة السمسمية البورسعيدية.
العزف على أوتار الأمل والحنين
ينتقل حمزة نمرة في أغنية "وافتكر" إلى موسيقى الـ "أر آند بي" لتغلف لحنًا تصاعديًا من مقام الكرد. كلمات حازم ويفي تدعو للأمل بتذكر كل العقبات التي تجاوزها الإنسان، حيث وصل ذروة هذه الحالة في كوبليه (وافتكر أنك مكسَّر/ لكن انت مش مقصَّر/ تشتكي وربك ييسَّر/ فَالُه يغلب برضه فَالَك). أما في أغنية "طال غيابك"، فيعكس حمزة حالة الاشتياق والشعور بالوحدة بكلمات تخرج من منظور الانفصال العاطفي لتبدو مناسبة لغياب فقيد غالي، بينما جاء اللحن غارقًا في الشجن من مقام الكرد، أما التوزيع فجاء كلاسيكيًا بافتتاحية بالبيانو.
في أغنية "مابتلاقينيش"، يقدم نمرة موضوعًا رومانسيًا صريحًا يعبر فيه الرجل عن مشاعره تجاه حبيبته، بلحن بسيط من مقام النهاوند، وتوزيع هاديء تصدَّره صولو الأوكرديون وآلة "الساز" الوترية.
ثم نأتى إلى "كدة الأيام"-التعاون المهم بينه وبين والشاعرة الكبيرة كوثر مصطفى؛ أغنية فلسفية تطرح أفكارًا تأملية حول الحياة، اختار حمزة لها لحنًا من مقام الكرد، إلا أنه كشف عن ولعه كموزع بالآلات الحية النادرة حيث افتتح الأغنية بصولو من آلة "الباغلاما" التركية والتي استمرت طوال الأغنية.
"كايرو" التي يفتقدها المغتربون !
في ألبومه الماضي غنى حمزة نمرة لمدينته الإسكندرية، وهذه المرة يغني للقاهرة في أغنية "كايرو"، التي تتحدث عن القاهرة من منظور مُغترب يتملكه الحنين لبلده باحثًا عن ناس يشبهون أهلها: (في مكان محدش شبهي أنا فيه/ أنا عايز ناس معايا تقاسمني الفرحية دي/ كايرو حد هنا من كايرو؟).
جاء اللحن ديناميكيا سريعًا من مقام النهاوند، أما التوزيع فسيطر عليه قالب الديسكو السبعيناتي بخطوط الوتريات الصاخبة، وفواصل موسيقيه بأصوات إليكترونية من الكيبورد.
يختتم حمزة نمرة ألبومه بالأغنية التي تحمل إسمه "قرار شخصي رقم واحد" من ألحانه وتوزيعه وكلمات عمر طاهر. وأغلب الظن أنه اختار هذه الأغنية كعنوان ذاتي للألبوم كما فعل في ألبومي "مولود سنة 80" و"رايق" .
أغنية تمثل إعلان حرب من صاحبها على واقع حياته ليفرض واقعًا جديدًا وهو يقول: (قرار شخصي رقم واحد/ ومتفكرش تحاسبني/ أنا مش هجري ورا حاجة/ عشان أعصابي محتاجة/ أعيش بطريقة تناسبني)
لحن متنقل بين مقامي الحجاز والكرد، وتوزيع مناسب من قالب الفلامنكو الإسباني تتصدره كردات الجيتار وتآلفات منه، مع فواصل موسيقية من آلة الكمان.
ألبوم "قرار شخصي رقم واحد" خطوة مهمة في مشروع حمزة نمرة كواحد من أهم وأبرز صُناع الأغنية المستقلة وصاحب مشروع غنائي لا يخاطب التجارب التجارية الرائجة بل يُعبر عن أفكار صاحبة فقط.