في الأول من أغسطس عام 2024، أطلقت بيلبورد عربية قائمة أعلى 50 أغنية، المخصصة لرصد الأغاني الخليجية الأكثر استماعًا أسبوعيًا. كان لافتًا منذ البداية حضور أغاني عبد المجيد عبد الله الكثيف على القائمة. لكن المثير للدهشة ليس فقط عدد أغانيه أسبوعيًا على القائمة، الذي وصل إلى 14 من أصل 50، بل إن الأغاني التي حضرت في القائمة لم تكن جميعها من مرحلة واحدة أو فترة معينة في مسيرته، لكنها تنتمي إلى حقب زمنية متباعدة، ففيها القديم من مسيرته وفيها الجديد.
تصميم عبد المجيد لمسيرته راعى توازنًا نادرًا: قاد راية التجديد بانسيابية تامة، ودون أن يخلع عن نفسه رداء الأغنية التقليدية كليًا.
عندما حاول أن يصنع اسمًا.. فسقط الاسم سهوًا
بدأ عبد المجيد عبد الله رحلته الفنية سنة 1979. كانت الأغنية الخليجية تعيش حينها حالة استقرار، وتزدهر مع القامات الفنية الكبيرة، مثل طلال مدّاح ومحمد عبده؛ بخلاف الضفة الثانية من البحر الأحمر، حيث كانت الأغنية المصرية تمر بتحولات جذرية وتغييرات عنيفة بعد أفول عصر عمالقة الطرب.
في هذا المناخ، حاول عبد المجيد أن يعثر على مساحته الخاصة، لكن حظه العاثر أضاعه في ظل طلال مدّاح، حين نُشرت أغانيه الأربع الأولى معه في ألبوم مشترك، وعن طريق الخطأ انتشر الألبوم باسم طلال مدّاح وحده.
وضعه ذلك أمام تحدي: كيف يصنع لنفسه اسمًا مُستقلًا؟
في نهاية الثمانينيات، بدأت الأغاني الشبابية في مصر تهيمن على المشهد الموسيقي، ويمتد تأثيرها إلى مختلف أرجاء العالم العربي. كانت هذه التحولات تمثل تحديًا للفنانين الخليجيين الذين ظلوا متأثرين بالأغنية الطربية التقليدية. وهنا بدأ عبد المجيد يُعيد تشكيل هويته الفنية، مع التساؤل: كيف يمكن للأغنية الخليجية أن تتطور وتواكب العصر الحديث، وفي الوقت نفسه تحافظ على جمالياتها الكلاسيكية التي يُحبها الجمهور الخليجي؟
الحل في التوزيع!
بدأ عبد المجيد يهتم بالتوزيعات الموسيقية التي تستوعب التأثيرات الحديثة القادمة من مصر، ليشهد ألبوم "الوعد" عام 1993، ظهور اسم الموزع الموسيقي لأول مرة على غلاف ألبوم لعبد المجيد؛ وكان طارق عاكف، الموزع الموسيقي المصري الذي لعب دورًا بارزًا في تطوير الأغنية الخليجية.
لقد شكّلت أغنية "الوعد" لحظة مفصلية في هذا التحول، إذ صارت التوزيعات عنصرًا أساسيًا في بنية الأغنية، لا مجرد خلفية للحن. فعند مقارنة "الوعد" بأغاني عبد المجيد في الثمانينات مثل "سيد أهلي"، يمكن بوضوح ملاحظة الفارق الكبير في العمق الموسيقي. تعتمد "سيد أهلي" على توزيع بسيط بتخت شرقي تقليدي حيث تعزف الآلات نوتات موسيقية متطابقة لتكمل بعضها البعض، بينما تُظهر "الوعد" وجود ثلاثة خطوط لحنية متمايزة؛ الكمانجات وآلات المفاتيح، حيث تقدم الأولى الجواب والأخرى القرار، لتشكلان لوحة موسيقية فيها أخذ ورد، بالإضافة إلى خط وتريات يتفرد بصولوهات ذات طابع أوركسترالي؛ الذي يدخل على المشهد ليتصدره بشكل مفاجئ وبنوتاته المختلفة.
ورغم أن طارق عاكف يتميز بالتوزيعات الأوركسترالية ومعروف بميوله إلى الموسيقى الكلاسيكية الطربية، مقارنة بموزعين من أبناء جيله، مثل حميد الشاعري، الذي كان يميل لاستخدام الأصوات الإلكترونية المخلقة. إلا أن الموزع المصري استطاع أن يمرّر عبر تعاونه مع المطرب السعودي تقنيات الهارموني إلى الأغنية الخليجية، التي جعلت البنية الموسيقية أكثر تداخلًا وغنًى، ليساهم بنقلها إلى أبعاد جمالية جديدة.
رهيب والله!
غير أن التحول الأكبر جاء في التعاون مع الملحن صالح الشهري، الذي قدّم له ألحانًا فيها من الخفة ما يجعلها تُناسب التوزيعات العصرية، ومن الأصالة ما يُبقيها قريبةً من الأغاني الخليجية الطربية والكلاسيكية؛ ليُقدم معه هيتات جددت من شكل الأغنية الخليجية وجعلتها أكثر قربًا من روح الشباب، مثل "رهيب"، التي ظهر معها أيضًا اسم الموزع الموسيقي أمير عبد المجيد.
كانت "رهيب" واحدة من المحطات البارزة التي غيرت وجه الموسيقى الخليجية في التسعينيات بلحنها الذي تتبدل سرعته بخفة، وينتقل من حالة التأمل في الجمال إلى الاحتفال به. توزيعها الموسيقي ضم أبعادًا متمايزة، يقوم فيها الهارموني على التضاد ما بين أصوات محيطية وسينثات رقيقة بارزة، تملأ الفراغات عندما يسكت صوت المطرب. وسرعان ما أصبحت "رهيب" حافزًا لعبد المجيد، الذي واصل الرحلة وتشعّب بحثه من بعدها، ليقود الدفة في مشروع فني أكثر نُضجًا، بتقديم أغاني يعتمد فيها على مزيج من أصوات السينثات الرقيقة مع العود والكمانجات والإيقاعات الخليجية التقليدية.
تمكّن عبد المجيد في التسعينيات من طرح عشرات الأغاني المُثيرة، كانت حصيلة بحثه باتجاهين متضادين بالآن نفسه: في التراث الخليجي الأصيل وجماليات إيقاعاته ولغته الشعرية الخاصة أولًا، وفي التأثيرات الموسيقية العابرة من مصر وبلاد الشام ثانيًا؛ وهو ما جعل أغانيه تتسم بتوازن فني نادر. هذه الصيغة من الأغنية الخليجية تعدّى نجاحها حدود بلاد الخليج، لتنتشر أغاني "رهيب" و"طيب القلب" و"خير انشالله" وغيرها في مختلف أنحاء الوطن العربي.
واصل عبد المجيد بحثه المستمر عن التجديد مع بداية الألفية. سعى لتقديم شيء مختلف سواءً من خلال تبني تقنيات جديدة في الإنتاج الموسيقي أو من خلال التجربة مع ملحنين وموزعين موسيقيين شباب، مثل تركي (طارق محمد) وسهم وعصام الشرائطي وآخرين. وبات تأثير التيارات الموسيقية التي استوردها من مشاهد البوب العربي إلى الأغنية الخليجية أكثر وضوحًا. يظهر ذلك جليًا بأغنية "غنوا لحبيبي" التي تحاكي موسيقى موجة البوب ليفانتين في تلك الفترة، وكذلك بتعاونه مع واحد من أبرز أعلامها، مروان خوري، بأغنية "سمعني غنية" باللهجة اللبنانية.
انعكست تأثيرات هذه التجارب بشكل ديناميكي على شكل الأغنية الخليجية التي ظل يطورها، بما يتناسب مع ذائقة الأجيال الجديدة من الجمهور، ومع الحفاظ على الأصالة واحترام ذوق جمهوره الأقدم.