في العقود الأخيرة، أصبحت الموسيقى اللاتينية جزءًا من الذائقة الفنية للجمهور العربي، ليس فقط من خلال الأسماء العالمية البارزة اليوم مثل باد باني وكارول جي وغيرهم من أسماء أيقونية، بل عبر موجات سابقة من الأغاني التي عبرت الحدود الثقافية والجغرافية لتجد صداها في منطقتنا.
فمنذ الثمانينات وحتى العقد الأول من الألفية الجديدة، شهدنا صعود عدد من الهيتات اللاتينية التي انتشرت على محطات الراديو، في أشرطة الكاسيت، ثم لاحقًا عبر شاشات التلفزيون والفضائيات الموسيقية. هذه الأغاني التي غالبًا ما كنا نرقص عليها دون أن نفهم كلماتها، جسّدت حالة من الانفتاح على ثقافات أخرى، ورافقت ذكريات لا تُنسى في الأعراس والحفلات وفي حياتنا اليومية.
من أصوات مثل غلوريا إستيفان وريكي مارتن، إلى ظاهرة "ماكارينا" ونجاحات شاكيرا وموسيقى الريجيتونا، كانت تلك المرحلة بمثابة الجسر الأول الذي عرفنا بالموسيقى اللاتينية، التي أثّرت بصناع الموسيقى في العالم العربي ليعملوا على تعريبها، ومهّدت الطريق للانفجار العالمي الذي نعيشه اليوم مع نجوم الجيل الجديد.
في هذا المقال نفتح باب الذاكرة، لنسترجع أبرز هيتات البوب اللاتيني التي تردد صداها في العالم العربي:
غلوريا استيفان ـ Conga
أغنية "Conga" التي أطلقتها غلوريا إستيفان مع فرقة ميامي ساوند ماشين عام 1985، كانت واحدة من أوائل الأغنيات اللاتينية التي كسرت الحواجز ودخلت الأسواق العالمية بقوة، ومن بينها العالم العربي. في تلك الفترة، كان الجمهور معتادًا على البوب الغربي التقليدي وموسيقى الروك والديسكو، لكن"Conga" جاءت بمزيج غير مألوف من إيقاعات الرومبا الكوبية والدانس بوب لأمريكي، لتقدم تجربة موسيقية جديدة وحيوية.
في إذاعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كانت الأغنية تبث كرمز للتنوع الموسيقي، وسرعان ما ارتبط اسم غلوريا إستيفان بالرقص والبهجة. ما ميز "Conga" هو قدرتها على جعل المستمع، حتى وإن لم يفهم كلماتها الإسبانية/الإنجليزية، ينخرط تلقائيًا في إيقاعها المتدفق ويرقص مع نغماتها. كان نجاح "Conga" بمثابة إعلان رسمي عن ولادة جسر ثقافي بين الموسيقى اللاتينية والعالم، وفتحت الباب أمام موجة كاملة من النجاحات التي تبعتها.
مادونا ـ La Isla Bonita
النجمة مادونا التي كانت صورها منتشرة في العالم العربي، على واجهات متاجر الكاسيتات وعلى جدران غرف المراهقين ومحبي الموسيقى العالمية، استهواها نجاح البوب اللاتيني، لتقدم سنة 1987 أول أغنية لها تنتمي لهذه الجنرا، "La Isla Bonita"؛ الأغنية التي جاءت بمزيج لافت بين البوب الغربي وعناصر الموسيقى اللاتينية كجيتار الفلامنكو والـ Latin percussion، مع غناء بعض المقاطع باللغة الإسبانية.
الأغنية وُلدت من لحن كان قد عُرض على مايكل جاكسون ورفضه، قبل أن تتبناه مادونا وتحوّله إلى أيقونة رومانسية تحاكي "الجزيرة الجميلة". وقد انتشرت الأغنية على نطاق واسع عربيًا، وصارت بتلك الفترة واحدة من أبرز الأغاني التي تستخدم في رقصات السلو، ما جعلها جزءًا من ذاكرة المناسبات الاجتماعية في العالم العربي آنذاك.
موسيقيًا، تُصنَّف الأغنية كلاتين بوب بالاد بلمسات بوزا نوفا وفلامنكو، وهو ما أضفى عليها هوية موسيقية جديدة لمادونا، بعيدًا عن أسلوبها المعتاد، وقد حققت معها نجاحًا عالميًا هائلًا، لتتصدر قوائم Billboard في 9 دول: إنجلترا وفرنسا وألمانيا الغربي وكندا وسويسرا وإيطاليا وتشيلي وبنما. أما هذا العام وبعد حوالي 4 عقود على صدورها، فنجحت في أن تكون واحدة من أغاني نادرة تجاوزت حاجز المليار مشاهدة على يوتيوب.
كاوما ـ Lambada
أغنية "Lambada" لفرقة كاوما، التي صدرت في صيف 1989، تُعتبر واحدة من الظواهر الموسيقية التي اجتاحت العالم العربي. أصل الأغنية يعود إلى لحن بوليفي؛ "Llorando se fue" لفرقة لوس كخاركاس، الصادر عام 1981، لكن النسخة التي حققت نجاحًا عالميًا هي نسخة كاوما، التي تميزت بتوزيعها الراقص المفعم بالحيوية.
اعتمدت الأغنية بتوزيعها الموسيقي بشكل أساسي على الأوكورديون مع إيقاعات لاتينية وبرازيلية. ومن المثير للاهتمام أن هذا اللحن لم يكن غريبًا على الجمهور العربي تمامًا: فقد استخدمه عمرو دياب قبل إصدار "Lambada" في أغنيته "ليلي". لكن الأغنية كانت على هامش ألبوم "شوقنا"، ولم تحقق نجاحًا يُذكر، لتكون "Lambada" سبب انتشار اللحن فعليًا في العالم العربي.
وفي بداية التسعينيات، كانت "Lambada" مرتبطة في العالم العربي بالرقصات الجماعية التي ميّزت حفلات تلك المرحلة. موسيقيًا، تنتمي الأغنية إلى جنرا لامبادا البرازيلية، وهي خليط من الكاريمبو الأمازوني والميرنغو، مع عناصر من السالسا. والاعتماد على الأوكورديون فيها لتقديم أغنية بوب لاتيني، لم يكن تفصيلًا عابرًا، بل ترك أثرًا واضحًا لاحقًا في توزيع أغاني البوب العربي المتأثر المتأثر بالموسيقى اللاتينية في التسعينات، مثل "نور العين" لعمرو دياب، التي تعتبر من أبرز الهيتات العربية التي انتشرت عالميًا.
لوس ديل ريو ـ Macarena
أغنية "Macarena" للثنائي لوس ديل ريو تُعتبر علامة فارقة في البوب اللاتيني، فهي الظاهرة الموسيقية العالمية الأبرز في التسعينيات. ورغم أنها سُجلت أول مرة عام 1993، فإن النسخة التي حققت الانتشار الكاسح كانت ريمكس بايسايد بويز عام 1995، حيث أضيفت مقاطع باللغة الإنجليزية وتم إعادة توزيع الموسيقى لتكون أكثر تحفيزًا على الرقص، مما قربها من جمهور البوب عالميًا. نجاحها لم يكن عاديًا؛ ففي 1996 تصدرت قائمة Billboard Hot 100 بالولايات المتحدة الأمريكية لمدة 14 أسبوعًا متتاليًا، لتصبح واحدة من أطول الأغاني بقاءً في الصدارة عبر التاريخ.
في العالم العربي، وصلت "Macarena" بسرعة عبر الفضائيات، التي كانت قد بدأت تنتشر حينها، وعبر أشرطة الكاسيت، وأصبحت الأغنية التي يعرف رقصتها الكبير قبل الصغير. حضورها كان طاغيًا في الأعراس والنوادي، حتى تحولت الرقصة الجماعية المرتبطة بها إلى علامة من علامات التسعينيات.
موسيقيًا، الأغنية تقوم على الفلامنكو بوب، ممزوجًا بالبوب دانس، وتبني إيقاعها على نسخة مبسطة من الإيقاع الكوبي الخماسي "كلافيس"، الشائع في الموسيقى الإسبانية واللاتينية. هذا المزج بين الإيقاع السهل والاعتماد على تكرار الكلمات وتصميم رقصة جماعية، جعل "Macarena" من أكثر من مجرد أغنية؛ بل تراثًا بصريًا وسمعيًا. كما أن موجة الرقصات الجماعية التي أطلقتها ألهمت كليبات عربية في أواخر التسعينات لتقديم استعراضات مشابهة، لنشاهد عشرات الكليبات العربية التي تحاول أن تصمم رقصات جماعية على طراز الماكارينا.
ريكي مارتن ـ Maria
أغنية “María” لريكي مارتن، التي صدرت عام 1995 ضمن ألبومه الثالث "A Medio Vivir"، كانت بمثابة الانفجار العالمي للنجم البورتوريكي الذي سيصبح لاحقًا من أيقونات البوب اللاتيني. الأغنية جاءت بمزيج جريء بين إيقاعات اللاتين بوب التقليدية مع لمسات من الدانس بوب، وبالاعتماد على إيقاع كلايفس الخماسي، ما أعطاها طابعًا احتفاليًا صاخبًا. كلماتها البسيطة والإيقاع المتكرر جعلتها مثالية للرقص، وسرعان ما اجتاحت الإذاعات والنوادي الليلية في أميركا اللاتينية وأوروبا.
وفي العالم العربي، وصلت "María" عبر شاشات الفضائيات التي بدأت تنتشر على نطاق أوسع في منتصف التسعينيات، وارتبطت بمرحلة بداية انفتاح الجمهور على الموجة الجديدة من البوب اللاتيني. بالنسبة لكثيرين، كانت الأغنية أول تعريف بريكي مارتن، والفيديو كليب الملون والمليء بالحركة عزز من شعبيتها، خصوصًا مع ملامح ريكي مارتن الكاريزماتية.
الجدير بالذكر أن ريكي مارتن أعاد تقديم اللحن ذاته بعد ثلاث سنوات "La Copa de la Vida"، التي قدمها في حفل افتتاح كأس العالم 1998 بفرنسا. ومع هذه اللحظة، لم يعد حضور الموسيقى اللاتينية مقتصرًا على الأغاني الراقصة فحسب، بل دخل إلى الملاعب والشاشات، حيث تشرب جمهور كرة القدم في العالم العربي تلك الإيقاعات للمرة الأولى بهذا العمق، لتترسخ في ذاكرته كجزء من متعة المونديال.
إنريكي إغليسياس ـ Bailamos
حين ظهر إنريكي إغليسياس في أواخر التسعينيات، لم يكن مجرد وجه جديد في البوب اللاتيني بالنسبة للجمهور العربي، بل كان بالنسبة لهم ابن النجم الذي تربت أجيال على موسيقاه، خوليو إغليسياس، الذي سبق وأن حقق نجاحات عالمية منذ السبعينات، ووصلت الأغاني التي قدمها باللغة الفرنسية بكثافة للجمهور العربي، حيث كانت تذاع يوميًا في الساعات المتأخر من الليل. لذلك فإن نجاح إنريكي عالميًا بأغنية "Bailamos" كان كفيلًا بانفجار شعبيته بالعالم العربي.
تمتاز "Bailamos" بخليط ذكي بين إيقاعات البوب اللاتيني الحديثة ولمسات الفلامنكو التقليدية وصولوهات الجيتار الجذابة، ما جعلها واحدة من أكثر الأغاني رومانسيةً بين هيتات البوب اللاتيني المنتشرة في العالم العربي.
شاكيرا ـ Whenever Wherever
مع بداية الألفية، جاءت شاكيرا لتفتح الباب واسعًا أمام البوب اللاتيني في العالم، بأغنيتها "Whenever Wherever " من ألبومها Laundry Service. الأغنية جمعت بين إيقاعات البوب اللاتيني ونغمات أنديزية واضحة باستخدام آلة الـبان فلوت، مع أداء غنائي بالإنجليزية ممزوج بلكنتها الإسبانية. هذا الخليط جعلها أكثر قربًا من الجمهور عالميًا، بالإضافة طبعًا لرقصها المثير الذي جعلها أيقونة للحفلات الحي. وتمكنت شاكيرا من اقتحام كل بيت عربي مع كليب الأغنية ولاسيما بعد انتشار الأخبار التي تفيد أن شاكيرا أصولها لبنانية، وبعد أن ربط الجمهور رقصاتها بالرقص الشرقي، لتعزز هذه المعلومات والانطباعات العلاقة بين شاكيرا والجمهور العربي، الذي تابع باهتمام إصداراتها اللاحقة، سواءً التي أصدرتها باللغة الإنكليزية أو الإسبانية.
لاس كيتشب ـ The Ketchup Song (Aserejé)
أغنية "The Ketchup Song (Aserejé)" لفرقة لاس كيتشب، التي صدرت عام 2002، مثّلت موجة جديدة من الهيتات اللاتينية التي اجتاحت العالم. الأغنية جذبت الجمهور بكل تفاصيلها: بمزاجها المرح وإيقاعاتها الراقصة ولازمتها الغريبة؛ التي تعتبر تقليد ساخر لأغنية الراب الأمريكية "Rapper’s Delight"، والأهم من كل ذلك رقصتها البسيطة وسهلة الحفظ، التي جعلتها تنتشر بسرعة خاطفة في كل أنحاء العالم.
وفي العالم العربي، تزامن انتشار الأغنية مع صعود الفضائيات العربية المتخصصة بالفيديو كليب مثل ميلودي هيتس ومزيكا، التي لعبت دورًا أساسيًا في وصولها إلى كل بيت تقريبًا. المشاهدون لم يتوقفوا عند اللازمة الساخرة التي حفظوها دون فهم معناها أو سياقها الأصلي، وإنما انجذبوا أكثر للرقصة الجماعية التي رافقتها، والتي أصبحت تؤدى في الحفلات، بشكل مشابه تمامًا لظاهرة "ماكارينا" في التسعينيات. وتعتمد الأغنية على مزيج من موسيقى الفلامنكو والبوب دانس، لتكون امتدادًا فعليًا لهيتات البوب اللاتيني في التسعينيات.
دادي يانكي ـ Gasolina
في 2003 بدأت موجة إصدارات الريجيتونا تجتاح العالم العربي مع أغنية "Dale Don Dale" لدون عمر، ولكن الأغنية التي شكلت العلامة الفارقة في هذه الجنرا اللاتينية هي "Gasolina" التي أطلقها دادي يانكي عام 2004. الأغنية بمزيجها الصاخب من الإيقاعات الإلكترونية وإيقاعات الديمبو الكاريبية مع الكورس المكرر “دا مي ماس غاسولينا”، أصبحت أيقونة للحفلات والملاهي الليلية، ومهدت الطريق لجيل كامل من فناني الريجيتون للانتشار عالميًا.
في العالم العربي، وصلت "Gasolina" في فترة كانت فيها الفضائيات الموسيقية في أوجها، وانتشرت سريعًا بين الشباب بفضل إيقاعها الذي يحفز على الحركة حتى وإن لم تُفهم الكلمات الإسبانية. وقد مثلت الأغنية دخول الريجيتونا كجنرا لاتينية جديدة إلى الذائقة العربية. وقد ألهمت الأغنية بعض صناع الموسيقى في العالم العربي لتجربة أنماط إيقاعية مشابهة ودمجها مع البوب المحلي، ما يعكس كيف أصبحت"Gasolina" لحظة مفصلية في تاريخ الموسيقى اللاتينية وعلاقتها بالجمهور العربي.