في فترة الخمسينات والستينات، كانت فكرة المسرح اللبناني تمر بمرحلة بلورة وتطوير، حيث لعب الأخوان عاصي ومنصور الرحباني دورًا محوريًا في تشكيل هذا المشهد الفني، ورافقهما صوت فيروز الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من هذه التجربة المسرحية.
خلال هذه المرحلة المفصلية، ساهم الثلاثي في تطوير أسلوب مسرحي احترافي جمع بين التجريب الفني وتوظيف الرمزية في السرد الغنائي، قبل أن تعصف الحرب الأهلية بلبنان في السبعينات.
الاحتفاء بالمسرح اللبناني
كانت مسارح بيروت مثل مسرح البيكاديلي، جاهزة لاستقبال عروضهم، وبرزت المسرحيات التي قدموها على مدى سنوات. ورغم أن الأغاني التي خرجت من هذه الأعمال بقيت خالدة أكثر من المسرحيات نفسها، إلا أنها كانت في النهاية نتاج سياقات درامية محددة. من أبرز الأمثلة، الأغاني الوطنية في مسرحية "ناطورة المفاتيح"، مثل "طلعنا على الضو"، والأغاني الرومانسية ذات الأبعاد السياسية في مسرحية "ميس الريم" مثل "سألتك حبيبي".
كما وثقت المسرحيات أوجاع الحرب التي دفعت ثمنها الطفولة، مثل أغنية " شادي؟" في مسرحية "يعيش يعيش"، التي تغني فيها الشخصية الرئيسية عن فقدان صديق الطفولة.
لم يقتصر التقدير على بيروت، فقد منح مهرجان بعلبك الدولي مساحة بارزة لهذه العروض. ففي صيف 1969، قدمت فيروز مسرحية "جبال الصوان" بعد أحداث صعبة شهدتها المنطقة، وغنت فيها واحدة من أكثر الأغاني الوطنية تأثيرًا، التي ذكّرت الجمهور بالانتماء في وقت كان البلد على أعتاب تحولات سياسية كبيرة.
قصة مسرحية "الشخص"
تُعد "الشخص" من أبرز الأعمال المسرحية التي قدمتها فيروز، وتُعتبر مرآة نقدية للمجتمع اللبناني والعربي، من خلال أسلوبها الرمزي والموسيقي. تُسلط المسرحية الضوء على قضايا السلطة والعدالة، وتظهر التباين بين الطبقة العاملة والسلطة الحاكمة.
تدور أحداث المسرحية في بلدة غير محددة، حيث تُجري الاستعدادات لاستقبال "الشخص"، وهو مسؤول سياسي رفيع. تُكلف شخصية "الشاويش" الذي لعب دوره الفنان نصري شمس الدين بإخلاء السوق من البائعين استعدادًا للزيارة. تظهر فيروز بدور "البيّاعة" بعربتها، وتغني للشخص، مما يؤدي إلى اعتقالها بتهمة الإخلال بالنظام العام. تُحاكم البيّاعة في محكمة، وتُصادر عربتها، وتُباع في المزاد العلني، وتذهب الأموال إلى خزينة الدولة.
وقد تميزت المسرحية بخلوّ شخصياتها من الأسماء، حيث تُسمى كل شخصية بوظيفتها: "البيّاعة" و"الشاويش" و"الشخص"، لتعزيز قوة الرمزية في العمل. وتتناول موضوعات القمع والبيروقراطية، ضمن سياق إجتماعي درامي وهو ما اعتمده الأخوين الرحابنة لسنوات في كتابة أعمالهم.
حملت هذا المسرحية الغنائية أكثر من 29 أغنية، أشهرها "بكرا انت وجايي" من كلمات وألحان الرحابنة، و"فايق يا هوى" من كلمات الأخوين الرحباني وألحان فيلمون وهبي.
النسخة المصرية من المسرحية
بعد نجاح المسرحية في لبنان بأكثر من 14 عام وفي عام 1982، قرر الأخوان رحباني تقديم نسخة مصرية من المسرحية، فاختاروا الفنانة عفاف راضي لتؤدي دور "البيّاعة". كما تم تعديل النص ليُناسب الثقافة المصرية، فكتب الشاعر أمل دنقل النص باللهجة المصرية، مع الحفاظ على جوهر الرسالة الفنية للمسرحية.
وتحولت أغاني فيروز مثل "بكرا إنت وجاي" إلى نسخة مصرية في "الصاري عالي"، كما قدما فيها عفاف واحدة من أشهر ألحان الرحابنة "يا وابور الساعة 12" .
على الرغم من الجهود المبذولة لتقديم المسرحية في مصر، واجهت تحديات مع الرقابة المصرية. لم يُعرض العمل على التلفزيون المصري، حيث صرحت عفاف راضي بأن المسرحية "تعبّر عن موقف سياسي"، وأنها قدمت الشريط للتلفزيون الوطني دون أن يُعرض حتى مرة واحدة.
أعطت هذه المسرحيات، بأبعادها السياسية والاجتماعية، لفيروز مكانة خاصة. فالأغاني التي قدمتها لم تكن مجرد حكايات رومانسية، بل حملت وجع الناس وهموم الوطن، وربطت بين لبنان وكل بلد سمع صوتها صدى لتجاربه ومشاعره، لتصبح بذلك أيقونة صوتية وثقافية عبر الأجيال.

