على مدار أكثر من عقدين، شكّل بهاء سلطان أحد أبرز الأصوات في الغناء المصري والعربي، على الرغم من كون مسيرته مرت بظروف استثنائية، لعل أبرزها كان انقطاعه كليًا عن الغناء والإصدار طوال تسع سنوات بعد إشكالات مع جهات الإنتاج. لكن نجمه لم يغب مع ذلك. ارتفعت أصوات زملائه النجوم تطالب بعودته، فيما بقي الجمهور يسمع اغانيه بلا إنقطاع. ولما عاد أخيرًا.. عاد بقوة كأنه لم يغب! وعلى قوائم بيلبورد عربية، نشهد له في كل حين أغاني تحقق نسب استماع كبيرة، كان أبرزها أغنية "صحبي يا صحبي" التي نجحت في تصدر قائمة هوت 100 خلال العام الحالي.
لكن خلف هذه النجاحات، وعشرات الأغاني التي يحفظها الجمهور عن ظهر قلب، يختبئ في أرشيفه الفني رصيد من الأغاني التي لم تنل نصيبها من الشهرة رغم قيمتها الكبيرة فنياً. أعمال أظهرت مرونة صوته، وجرأته في التجريب، وقدرته على المزج بين العاطفة الشعبية والعمق الطربي.
في عيد ميلاده، حان الوقت للعودة إلى أرشيف بهاء سلطان، ليس فقط للاحتفاء بصوته، بل لإعادة تسليط الضوء على أغنيات رائعة لم تأخذ نصيبها العادل من الاهتمام.
أنا مش معاهم
تجسّد أغنية "أنا مش معاهم" الصادرة عام 2007 ملامح صوت بهاء سلطان العاطفي وقدرته على بثّ الشجن عبر عُرَبه الغنائية. جاءت الأغنية كعمل رئيسي لفيلم حمل الاسم نفسه، بكلمات بهاء الدين محمد وألحان محمد الصاوي، لتصوّر لحظة مصيرية يعيد فيها الإنسان اكتشاف ذاته من خلال الحب.
يقدم سلطان أداءً رقيقًا يتناغم مع لحن شرقي هادئ يقوم على إيقاع خفيف، فتتكوّن مساحة صوتية تسمح للكلمات بأن تصل بصدقها إلى المستمعين. ومع هذا المزج بين حساسية الأداء وبساطة التوزيع، تحضر الأغنية كاعتراف وجداني صريح، وتبقى واحدة من أبرز المحطات التي عبّرت عن الجانب الرومانسي في تجربة سلطان الفنية. *من اختيارات نور عز الدين
قاللي
قدم بهاء أغنية "قاللي" في أواخر التسعينيات ضمن ألبومه "ياللي ماشي" ذلك الألبوم الذي اجتاح الشوارع المصرية وقتها بصوت جديد يجمع بين الطابع الشعبي والبوب، صوت لا يشبه أحدا لكنه يقدر أن "يُسلطن" الجميع. الأغنية من كلمات مصطفى كامل أحد أبرز الداعمين لموهبته منذ البدايات وألحان عصام إسماعيل.
في هذه الأغنية تحديدًا يظهر الوجه الطيب والحالم لبهاء، إذ يروي تجربة حب انتهت بالخداع، فقد صدق وعودا زائفة من حبيبته قبل أن تغدر به. لكنه على عكس الصورة المعتادة في الأغاني العاطفية لا يلوح بالانتقام ولا يتوعد، بل يكتفي برثاء حظه مرددا بصدق موجع: "عينى على بختنا، عيني على حظنا". *من اختيارات نورهان أبو زيد
روحي فيك
في بدايات الألفية أصدر بهاء سلطان ثاني ألبوماته "3 دقايق” والذي ضم 8 أغنيات متنوعة، لكن تبقى أغنية "روحي فيك" الأقرب إلى قلبي، وما زلت أعود للاستماع إليها بين الحين والآخر رغم مرور السنين.
قد يكون السبب في تعلقي بها لا يقتصر فقط على كلمات أحمد شتا التي تمزج بين الحيرة والوله، بل في الأساس يعود إلى اللحن الذي صاغه الموسيقار صلاح الشرنوبي ذلك الاسم اللامع في التسعينيات والذي صنع نجاحات لا تُنسى مع أصوات طربية كبرى مثل وردة الجزائرية وميادة الحناوي. غير أن الشرنوبي في "روحي فيك" قدم لحنا مختلفا: بسيطا في شكله، عميقا في إحساسه، يتصاعد تدريجيًا ليُظهر قدرات بهاء الصوتية في مناطقها الأكثر صدقًا.
وجاء توزيع محمد مصطفى ليضفي على الأغنية طابعًا راقصًا رغم ثقل موضوعها العاطفي، مما منحها توازنًا بين الشجن والإيقاع وجعلها من أجمل لحظات الألبوم. تتجلى ذروتها في المقطع الذي يقول فيه بهاء:"ويا ويلي ويلي في هواك / من ناري في بعدك ولقاك / وحياة الشوق بترجاك لو يوم أحتاجلك ألاقيك"، وهو مقطع يلخص التوتر العاطفي بين التوسل والرجاء وبين الحنين والخوف من الخذلان. *من اختيارات نورهان أبو زيد
الوردة
صدرت أغنية "الوردة" ضمن ألبوم "ومالنا"عام 2011، وهو الألبوم الذي شكل عودة بهاء سلطان بعد غياب دام خمس سنوات عن إصدار الألبومات، وجاء زاخرا بأغنيات تليق بصوته وأدائه العاطفي.
ورغم تنوع أغنيات الألبوم تبقى "الوردة" المليئة بالصور الشعرية من أبرز لحظاته الفنية بالنسبة لي، إذ تجلى فيها بهاء بأداء يفيض احتياجًا وعذوبة، وجسد من خلالها مرارة الحب من دون رغبة حقيقية في الخلاص منه.
في هذه الأغنية لا يُخفي بهاء عذابه بل يغوص فيه ويقدمه بإحساس صادق يتجلى في طبقات صوته العالية "الجواب" التي لطالما برع في أدائها. الكلمات جاءت بقلم نصر محروس-منتج الألبوم- أما اللحن فكان بتوقيع محمد رحيم ونجح كلاهما في صياغة عمل يليق بفنان تميز دوما بصدقه وشفافيته في الغناء العاطفي. *من اختيارات نورهان أبو زيد
خلتني أخاف
في عام 2011 قدّم بهاء سلطان واحد من أجمل ألبوماته على امتداد مسيرته؛ ألبوم "ومالنا"، لكن الظرف السياسي والمزاج العام بتلك الفترة، أثرا سلبًا على نجاح الألبوم، فضاع بريقه وسط العاصفة. ومع ذلك، ظلّت بعض أغانيه جواهر مخفية، ومن بينها "خلتني أخاف".
الأغنية وإن كانت بنيتها خطابية، مؤطرة برسالة لوم للحبيب السابق، ولكنها تتعدى هذا الإطار البنيوي لتكون بوحًا بالمخاوف والهواجس، واعترافًا صريحًا بالهشاشة. الكلمات تحمل مرارةً صافية، لكن اللحن يأتب على إيقاع مقسوم سريع نسبيًا، ليخفف من وطأة الحزن وينجو من الغرق بالبكائية. ويعزز جمال الأغنية صوت بهاء سلطان الذي يبقى متماسكًا مع الاعتراف بالضعف. *من اختيارات عمر بقبوق
كان زمان
لربما كانت هذه الأغنية من أجمل وأصعب الأغاني الطربية التي سمعناها منذ بداية الألفية الجديدة، وأقلها تقديرًا بكل تأكيد. وضع رياض الهمشري لحنًا طربيًا ينقسم فجأة وينتقل من مقام إلى آخر، ليتطلب أداءً استعراضيًا يجمع الحنية والهدوء في القرار، مع القوة الكبيرة والتحكم بالأداء في الطبقة العالية، بما يخدم العنصر الدرامي في الكلمات في الحالتين، خاصة مع تغير المقام مع جملة: "وبقينا يا قلبي لوحدنا ويا اللي فات/ حنروح لفين إنتا وأنا من الذكريات" والمقطع الذي تبعها.
صدرت الأغنية ضمن ألبوم حمل اسمها عام 2006، وضم كذلك هيت "الواد قلبه بيوجعه" وكان قد سبقها بعام صدور هيت "قوم أوقف وانتا بتكلمني"، اللتان حققتا لبهاء سلطان الجماهيرية والانتشار العربي الأول في مسيرته، لكنها نمطته في البداية -لدى شريحة الجمهور التي كانت تتكشفه للمرة الأولى حينها- كمغني أقرب للألوان الشعبية والأغاني الخفيفة. ثم جاءت "كان زمان" لتكشف عن صوت جبار بمساحات واسعة، وإحساس يصعب تفسيره. *من اختيارات هلا مصطفى
أنا مصمم
ظهرت اغنية "أنا مصمم" كواحدة من اللحظات الصادقة والمضيئة في مسيرة بهاء سلطان قبل 14 عامًا، ليصل عدد مستمعيها حتى يومنا هذا 122 مليون .
الأغنية تُبنى على حوار مفتوح بين الحبيب وحبيبته، حيث يواجهها مباشرةً بالأسئلة، رافضًا أن يترك الصمت أو المسافة تتسع بينهما. كلمات الأغنية، وإن بدت بسيطة، تعتمد على ثنائية الإصرار مقابل الانسحاب، حيث يرفض المتكلم أن يترك لحظة الجفاء تمضي من دون تفسير، هناك نزعة واضحة: "مش ماشي ولا سايبك تمشي قبل أما أفهم في إيه"، وهو ما يلخص فلسفة الأغنية كلها، التي تفضل إصرار على المواجهة بدلاً من الهروب.
لحن الأغنية يميل إلى الشجن، ببطء وإيقاع يحمل مسحة من الحزن، ما يضاعف أثر كلمات العتاب والإصرار. وبينما يتدفق النص بالمواجهة والتمسك، يمرّر بهاء سلطان عبر صوته انفعالاته الحقيقية، متنقلًا بين القوة والضعف، وبين العتاب والرجاء، في توازن يجعل الأغنية أكثر صدقًا وعمقًا.
"أنا مصمم" بالنسبة لي ليست مجرد أغنية حب وعتاب؛ إنها إعلان إرادة في وجه الانسحاب، وتجسيد لصراع داخلي بين التشبث والاعتراف بالهشاشة، وهذا ما يجعلها تظل واحدة من الجواهر المخبأة في ألبوم لم يُنصفه الزمن. *من اختيارات ياسين محمد