طوال أربعين عامًا كان الشاب مامي الابن البار لموسيقى الراي. تربّى عليه، فتشرب تأثيراته، واحترفه، حتى بنى بصوته جسور تواصل مع العالم من حوله.
بين الراي الشعبي الصرف والراي المُهجن بأنغام العالم، صاغ مامي أرشيفًا موسيقيًا يُشبه سيرته: متجذر في الجزائر، لكنه يحلق أبعد من حدود الجغرافيا. في هذا المقال، نستعرض محطات متنوعة من مسيرته، من الأغاني التي زرعت نفسها في ذاكرتنا الجماعية، إلى التعاونات التي كسرت التوقعات، وأعمال ربما لم تأخذ نصيبها من التقدير، لكنها تختزن روح مامي كاملة — صوتًا وهوية وشاعرية.
حاولو (يحسن عون العاشق)
هذه الأغنية تتسببّ بدودة أذن. تستقر برأسك وتستقطبك إلى دوّامة سمعيّة. تغريك بما يظهر كمتاهة كلاميّة في البداية، لكنها نظم شعري متقن من وضع مامي. نزلت الأغنية ضمن ألبوم "Let Me Rai" سنة 1990 الذي سجّل في الولايات المتحدة الأمريكية، ووسمت البدايات الحيوية لمامي في تسعينيات متوهجة انتعش فيها الرّاي بأقطابه المتعددة. مزج مامي الراي مع أصوات عالمية في الألبوم منها الفلامنكو الذي يظهر جليّا من خلال توزيع الجيتار في أغنية حاولو.
المرسم
من الصعب تجاوز ظهور الشاب مامي في حفل برنامج ألحان وشباب سنة 1982 وهو يؤدي "المرسم"، إحدى الكلاسيكيات المحلية التي تعادل طقوس التعميد بالنسبة لمغنيّ الراي الصاعدين. وقف مامي بجسده النحيل وحلتّه البيضاء أمام الجمهور المنتشي لغنائه وخامته الغضّة، في أداءٍ اختزل الشكل الخام لهويته الأسلوبية. جذب عرض مامي اهتمام بوعلام بن حوى، صاحب استوديو ديسكو مغرب الأيقوني، ليبدأ في إصدار أشرطة الكاسيت قبل أن يسافر إلى باريس فيما بعد ويطلق مسيرته.
Desert Rose مع ستينغ
كانت أغنية "Desert Rose"، التي صدرت في أواخر عام 1999، لحظة فارقة في تاريخ التعاونات العربية-العالمية، حين عثر ستينغ -الذي كان في قمة نجوميته العالمية حينها- على الشاب مامي وضمّه إلى تجربته. مزجت الأغنية بين موسيقى الراي وصوت الروك العميق لستينغ، ما خلق تجربة موسيقية فريدة تربط بين الشرق والغرب.
يكمن جمال الأغنية الأعمق في صوت الشاب مامي، الذي أضفى عليها بعدًا روحانيًا وشعوريًا فريدًا. بصوته العذب والمليء بالشجن، افتتح الأغنية بكلمات عربية تنبض بالحب والحنين، مانحًا العمل هوية ثقافية أصيلة ومؤثرة. غناؤه باللهجة الجزائرية ينسج طبقة من الغموض والجمال الشرقي، تضيف للأغنية طابعًا مميزًا يتجاوز اللغة والحدود، ويشكّل روحها الشرقية التي تجعل "Desert Rose" تجربة لا تُنسى، تمزج بين العاطفة والسحر.
تزعزع خاطري
تقدّم "تزعزع خاطري" لحظة تأمل نادرة في مسيرة الشاب مامي، حيث يتخلى عن الإيقاعات الصاخبة ويعود إلى جذور الراي العاطفي. تبني الأغنية عالمها بهدوء، من خلال لحن بسيط يعتمد على تكرار نغمي خفيف، يقوده صوت كيبورد أثيري. يُغني مامي بصوت منخفض، كمن يراجع وجعًا قديمًا لا يزال يسكنه. تستحضر "تزعزع خاطري" إرث الشاب حسني، لا من خلال التشابه الظاهري فقط، بل عبر الإحساس العميق بالخذلان والعزلة والرغبة في البوح من دون صراخ.
بكاتني
تلازمني "بكاتني" عند الشعور العميق بالخذلان والحزن، لا الأحزان العابرة التي يمكن تجاوزها. بساطة التعبيرات تنقل حالة صادقة دون اهتمام بالجماليات، واللازمة التي تتكرر أكثر من مرة بالأغنية "بكاتني كيف بكيتلها / وهايي وعلى فراقها أنا ما قديت" يعكس حالة ضعف تجبرك على التضامن. يعطي الإيقاع البطيء للحن المعتمد على الناي والكمان مساحة لصوت مامي العميق للتدفق، صوت به لمسة من الأنين تنقل كل مشاعره في جرعات متتابعة وتعطيك إحساسًا بالألم النفسي والجسدي معًا.
مانيش عدوك
أتذكر الشعور بالانبهار حين سمعت الشاب مامي لأول مرة في طفولتي، وأعتقد أنها كانت أغنية "مالي مالي". لم أكن تجاوزت العاشرة ولا أعرف ما هو الراي، لكنني أذكر إدراكي لأن هذه الموسيقى غير مألوفة بالنسبة لي ولا أفهمها، ولكنها عرفت أنني أحببتها كثيرًا.
ثم مرت السنوات وعدّت مع فهم موسيقي أكبر لأتفحص أرشيف مامي. حين سمعت "مانيش عدوك" لأول مرة فكرت أن هذه الأغنية مثالية لمن يريد مدخلًا لفهم الراي بكل عناصره: الكيبورد، الأتوتيون، ثيمات الكلمات التي تمتلىء بالشجن حتى حين تكون سعيدة، وخصوصية الأداء الصوتي.
أجلس في المقهى مع كاظم الساهر
أحد أكثر الديوهات المظلومة بتاريخ الأغنية العربية؛ جمع بين مدرستين لم نكن نتخيل أن نسمعهما سويًا، كاظم الساهر بميله للطرب الكلاسيكي المنضبط في إيقاعه، ومامي بتلوينات الراي التي تحلق بحرية أكبر وكأنها تراقص اللحن. يضاف لها براعة في خلق صور جمالية من تفاصيل الحياة اليومية، والحميمية. التعبيرات المستعملة من الثنائي في منافستهم المرحة على السيدة الجميلة التي يهوونها يجعل الأمر أشبه بالاسكتش الكوميدي الطريف.
اشترك في إعداد هذه القائمة كل من هيكل الحزقي ويوسف علي ونور عز الدين وعمر بقبوق.