في زمن التقنيات المتقدمة والذكاء الاصطناعي، بتنا نسمع تركيبات موسيقية لم يكن ليحلم بها أحد: فرقة ميتالّيكا تؤدي شارة مسلسل "باب الحارة"، وأصالة تغني "Diamonds" مع ريانا. لكن قبل "أحلام العصر" هذه التي فرضتها التكنولوجيا علينا، كان رموز "الزمن الجميل" سباقين في تجربة الغناء بأسلوبهم الخاص بلغات أجنبية- عندما لم يكن ذلك مألوفًا إطلاقًا- وقدموا نماذج راقية أو طريفة لهذا التلاقح الثقافي خارج حدود لغة الأم.
الإنسان بطبيعته يحبّ المفارقات والمساحات التي يلتقي فيها المألوف بالغرائب. الصوت الذي نعرفه، حين يلفظ كلمات لا نألفها، يُضيء عندنا فضولًا مزدوجًا: من جهة الحنين، ومن جهة الاكتشاف. لذا، غصنا في أعماق الإنترنت وأعددنا لكن هذه القائمة من الأغاني الأصلية لأبرز فناني الطرب في القرن الماضي، وهم يجبرون صوتهم بلغات العالم.
فيروز… بهجة العالم بعدة لغات
يتجاوز رصيد فيروز 1500 أغنية، ما يجعل من الاستماع لكل أرشيفها مهمة شبه مستحيلة. لكن من بين هذا الكم الهائل من الأغاني، هناك الكثير من المحطات النادرة، منها ما غنته باللغة الإنكليزية. ففي اليوم الأول من عام 1989، أصدرت ألبومًا بعنوان Christmas Carols from East and West، تضمّن غناءها بلغات متعددة، منها الإنكليزية والسريانية واللاتينية والعربية. نسمع فيروز تغني "Joy to the World" و"We Wish You a Merry Christmas"، بصوتها الذي يملك سحرًا خاصًا مهما تغيّرت اللغة. لهجتها بقيت على حالها، غير "مفرنجة" ولا متكلّفة، وكأنّها ترفض المساومة حتى في النطق. في جملة "Let every heart"، مثلًا نسمع عُرب فيروز، وتلفظ حرف الراء كما نعرفها منها، لا كما تقتضي الإنكليزية.
الشحرورة... Funk إيراني بنكهة شرقية
في الفيلم الإيراني-اللبناني "رجل من طهران" الذي أُنتج عام 1967 وأخرجه فرانك أجراما، اجتمع نجوم من الضفتين، أبرزهم محمد علي فردين وصباح، في تجربة سينمائية عابرة للحدود، عكست طموحًا ثقافيًا نادرًا في زمنٍ كانت فيه السينما العربية تميل إلى تأكيد الهوية الوطنية. أما صباح، فكسرت بدَورها القواعد، وتخطّت الجغرافيا واللغة حين أدّت إحدى أغاني الفيلم بالإنكليزية وبأسلوب الفانك الصريح، مردّدة: "Maximum you can touch me.. but love you? No".
تؤديها في مشهد داخل حفلة، موجّهة كلماتها بحزمٍ ومرح إلى بطل الفيلم محمد علي فردين، مؤكدة أن المغازلة لا تعني الحب. ثم تُعيد الرسالة نفسها بالعربية: "ماكسيموم بترقصني، ماكسيموم بتسايرني، بس حبك لأ!"
لم تكن هذه المغامرة اللغوية الوحيدة في مسيرة صباح. ففي 20 يناير 1969، وقفت على خشبة الأوليمبيا في باريس برفقة فرقة روميو لحود الاستعراضية، وغنّت أغنيتها الرحبانية "عالندا" بالفرنسية، مترجمةً من قبل روميو إلى لغة الجمهور الذي تجاوز الثلاثة آلاف شخص. وحتى الموال صدح بصوتها الجبلي العذب: "Paris, Paris, ville des rêves" أي "باريس يا مدينة الأحلام". كانت لحظة أشبه بالحلم فعلًا.
أدّت صباح هذه النسخة في خمس حفلات متتالية قدمتها في بلجيكا بعد حفلة باريس، مع استبدال الجمل التي تذكر مدينة باريس. علّقت صباح لاحقًا في مقابلة تلفزيونية بعد عودتها من باريس وبروكسل: "غنيتلن عالندا بالأول بالعربي، بعدين بالفرنسي، وخدلك ع زقيف!"، واختتمت المقابلة بأداء الأغنية.
وردة الجزائرية/ الفرنسية
ولدت وردة في باريس، فكانت الفرنسية جزءًا من حياتها بشكل طبيعي. في عام 1993 في باريس، غنّت Les Feuilles Mortes، الأغنية الشهيرة التي كتبها جاك بريفير ولحّنها جوزيف كوزما، بصوت فيه شيء من الحنين واللوعة، بمرافقة العازف المصري اليوناني جورج موستاكي على الجيتار. الأغنية، التي تعني "الأوراق المتساقطة"، ترمز إلى مرور الوقت وذبول الذكريات، وقد أدّتها وردة بحنين ناعم وعُرب شرقية تسرّبت رغم اللغة. لاحقًا، غنّتها مجددًا في عام 2005 على شاشة MBC.
كما قدّمت مع الفنان الفرنسي ميشيل فوغان أغنيتين بالفرنسية هما Chante la Vie وFais comme l'oiseau. وعبّرت في عدّة لقاءات عن حبّها لإديت بياف، بل ودندنت بعض أغانيها في عدة مقابلات، مما كشف عن تشابهات صوتية بينهما.
عبد الوهاب والإسكندراني... دويتو لم يتوقّعه أحد
قد يكون محمد عبد الوهاب من أقلّ الأسماء التي قد نتخيّلها تلحن أغنية بالإنكليزية. لكنه فعلها. في دويتو بعنوان Never Let Me Go، غنّى مع سمير الإسكندراني مزيجًا من العربي والإنكليزي في توليفة خفيفة الظل كتب كلماتها ريتا شكري. غنى فيها الإسكندراني المقاطع الإنكليزية وعبد الوهاب المقاطع العربية تتخللها بعض جمل الإنجليزية.
تعرّف عبد الوهاب على الإسكندراني بعدما سمعه يغني Strangers in the Night لفرانك سيناترا عبر إذاعة القاهرة، وظنّ أنه مطرب أجنبي. وعندما علم أنه شاب مصري من حي الغورية، طلب لقاءه على الفور. ومن هناك بدأت الحكاية.
وسجّل الاثنان لاحقًا أغنية النيل الفضي بالإنكليزية أيضًا، من ألحان عبد الوهاب وكلمات ريتا شكري، حيث تبدأ الأغنية بتقاسيم على مقام الكرد تمهيدًا لصوت الإسكندراني الذي يأخذك من ضفاف النيل إلى ضفاف العالم.
ماجدة الرومي... بثلاث لغات
في ألبومها قيثارة السماء الذي صدر عام 1992، غنّت ماجدة الرومي بالإيطالية والفرنسية والعربية. وبعد ست سنوات، غنّت في الأوليميبا عام 1998 وقدمت أغنية جاك بريل الخالدة، Ne me quitte pas، التي تعبّر عن التعلّق والانكسار. ما أن غنّت ماجدة الرومي الجملة الأولى من الأغنية، حتى انهمر التصفيق من الجمهور بحرارة.
ما يضفي على هذه النسخة خصوصية فريدة، رغم أن الأغنية طافت أصوات ولغات فنانين كثر حول العالم، هو بروز صوت العود وسط التوزيع الموسيقي، بانسجام لا يختل، مجسدًا تلاقي المكان الذي أتت منه ماجدة وتفخر به، والمكان الذي تغني فيه. وأدت في الحفل ذاته أغنية فرنسية أخرى وهي Padam, Padam لإيديت بياف.
عائلة البندلي وتساؤل شرقي-غربي عن الحب
لربما كانت Do You Love Me لعائلة البندلي اللبنانية أكثر أغاني هذه القائمة شهرةً. صدرت في فترة كانت الفرق الغنائية العربية والمصرية خصوصًا التي تحاكي تجارب الـ "باندز" الأجنبية في الموسيقى واللغة، في أوج نشاطها. حفظها جمهور واسع ورددها لعقود تالية اذا استقبلوها من بوابة الطرافة والكوميديا أكثر منها بوابة الموسيقى، ربما لأنها كانت المرة الأولى التي يسمعون فيها موالًا بالإنجليزية.
الافتتاحية والمقطع الأول للأغنية حافظت على أسلوب أداء ولحن وتوزيعات شرقية بامتياز مع الرق والإيقاعات، قبل أن تنقلب فجأة في نصفها الثاني للنغمات الغربية بالكامل بتصبح كأنها أغنية للبيتش بويز. تجربة سبّاقة رغم طرافتها، وتقدم نموذجًا موسيقيًا فريدًا لم نسمعه سابقًا ولم يتكرر بعدها، استعرضت فيها الفرقة ثقافتها الموسيقية الواسعة وتمكنها، كما عكست شكل تلك الحقبة من الموسيقى العربية بكل الانفتاح والتجريب الذي ضمّته.