في الثمانينيات، بدأت فيروز باستكشاف مسارات موسيقية جديدة بعد انفصالها عن الأخوين رحباني، متعاونةً مع ملحنين مثل فيلمون وهبي وابنها زياد الرحباني، الذي شكّل بصمته الخاصة في ألبوماتها. ومع دخول التسعينيات، رسّخ ألبوم "كيفك إنت" عام 1991 هذا التوجه الحداثي، قبل أن يأتي "فيروز تغني زكي ناصيف" سنة 1994 كتتويج لتعاونها مع أحد أبرز ملحني لبنان. حمل الألبوم طابع الاحتفاء بتراث ناصيف الموسيقي، مقدمًا نكهة الفولكلور اللبناني الأصيل بأسلوبه الخاص ليكون واحدًا من آخر أعماله قبل رحيله عام 2000.
التعاونات الأولى والتباين الفني
خلال فترة الأربعينيات كان زكي ناصيف عضوًا في عصبة الخمسة، التي ضمّت أيضًا الأخوين رحباني وفيلمون وهبي وتوفيق الباشا. هذه المجموعة سعت إلى تطوير الموسيقى اللبنانية والحفاظ على التراث الفني، مما أتاح فرصًا للتعاون والتفاعل بين أعضائها. لكن في هذا الألبوم يظهر الفرق بين ناصيف والأخوين رحباني في الابتعاد عن التوزيعات الأوركسترالية الكبيرة والتركيز على التكرار اللحني البسيط المستمد من التراث.
قبل إصدار الألبوم، شهدت الساحة الفنية اللبنانية تعاونًا محدودًا بين فيروز وزكي. أحد أبرز هذه التعاونات كان في عام 1981، عندما قدّمت فيروز أغنية "يا بني أمي" من ألحان زكي ناصيف وكلمات مستوحاة من نصوص جبران خليل جبران، بتوليف الشاعر جوزف حرب. هذه الأغنية، التي تم تسجيلها خلال فترة الحرب الأهلية اللبنانية، حملت رسائل إنسانية وفلسفية عميقة، وعُرضت عبر الإذاعات اللبنانية في ذلك الوقت، ودخلت أيضًا ضمن هذا الألبوم.
رومانسية زكي بصوت فيروز
كانت "أهواك بلا أمل" واحدة من أكثر أغاني الألبوم شهرة، بنغماتها التي تعكس الطابع الرومانسي التقليدي. يبدأ اللحن بهدوء، كما لو أن زكي ناصيف يترك الكلمات تأخذ وقتها في التغلغل داخل القلب، ثم يتصاعد تدريجيًا مع تصاعد العاطفة. اختار مقام العجم ما منح الأغنية طابعًا أكثر عالمية، مختلفًا عن الأسلوب الشرقي البحت، في حين أن التوزيع الموسيقي البسيط أفسح المجال لصوت فيروز ليكون في المقدمة دون تعقيدات لحنية قد تحجب إحساسها.
أما "ع دروب الهوى"، فهي تنتمي أيضًا إلى اللون الرومانسي، بلحن بسيط لكنه متماسك، يحمل بصمة ناصيف بوضوح. هنا، يتجلى عشقه للحب والحياة في كلمات مثل: "عمرلي عماير ع حفاف القمر / علالي وقناطر ع مد النظر". يترك ناصيف اللحن ينساب دون تكلف، تاركًا لصوت فيروز تقديمه برومانسية خام، كما لو كانت الأغنية قصة حب تُروى بنغمة خافتة وحنين لا ينتهي. "بناديلك يا حبيبي" تمثل الجانب الرومانسي الحزين في الألبوم، حيث يعتمد ناصيف على تكرار اللحن بإيقاع بطيء لخلق إحساس بالحنين والانكسار.
من الدبكة إلى الموشح
قدم زكي ناصيف في هذا الألبوم أكثر من لون وأسلوب غنائي، متنقلًا بسلاسة بين الرومانسية والدبكة والموشحات، ما جعل التجربة الموسيقية متنوعة وغنية. من بين هذه المحطات، تأتي "عبالي يا قمر" كواحدة من أكثر الأغاني حيوية، حيث تنتمي إلى لون الدبكة. لم يعتمد ناصيف على الدبكة اللبنانية التقليدية الصاخبة، بل قدّمها بأسلوب أكثر رقّة وهدوءًا، يتناسب مع خامة صوت فيروز الرقيقة. جاء اللحن بسيطًا لكنه متماسكًا، يعيد للأذهان الأغاني الفلكلورية اللبنانية التي تحتفي بالحياة والطبيعة، محافظًا على الروح التراثية دون أن يفقد أناقته.
أما أغنيتي "فوق هاتيك الربى" و"سحرتنا البسمات" هما مقطوعتان قريبتان إلى روح الموشحات، حيث تأخذ الألحان طابع تقليدي كلاسيكي، مع نسيج هارموني غني يعكس التناغم بين اللحن الشرقي والتوزيع السلس. في "سحرتنا البسمات"، أضافت فيروز لمستها الخاصة بموال افتتاحي كشف عن نضج وقوة صوتها، ليكون بمثابة مقدمة تمهد للدخول في عالم الأغنية العابق بالجمال الشرقي والتطريب الأصيل.
ألبوم "فيروز تغني زكي ناصيف" هو لقاء بين موسيقى مفعمة بالتراث وأسلوب متجدد. زكي ناصيف قدّم الفولكلور اللبناني بأسلوبه البسيط والعميق، في حين أضافت فيروز لمستها الخاصة في كل أغنية، ما جعل الألبوم واحدًا من أبرز لحظات مسيرتها. مع أغاني مثل "أهواك بلا أمل" و"عبالي يا قمر"، نجح فيروز وناصيف في توحيد الماضي والمستقبل، مقدّمين تجربة موسيقية تظل عالقة في الأذهان وتُحتفظ بمكانتها في تاريخ الموسيقى اللبنانية.