في زمنٍ تتكاثر فيه الألبومات وتتكرر فيه الأنماط، يقدّم الفنان تووليت ألبومًا يستحق التوقف عنده طويلًا. "نارين" ليس مجرد مجموعة أغاني، بل خريطة مزاجية متقلبة، تسير بين الانكسار والرغبة، بين الجرأة والتردد، بين الضجيج الصاخب والبوح الحميم.
هذا الترتيب النقدي لأغاني الألبوم لا يبحث عن الأفضل من باب المقارنة فقط، بل يحاول تفكيك التجربة نفسها: كيف يتحرك تووليت داخل حدود البوب العربي، وكيف يحاول كسرها؟ ما الذي ينجح فيه، وأين يخفق؟ من الأغنية التي لم تضف جديدًا، إلى تلك التي تمثل قفزة فنية، نستعرض معًا ملامح هذا المشروع الموسيقي الطموح ونرتب أغانيه من الأضعف للأقوى.
إنتي كريزي
تُعد أغنية "إنتي كريزي" الحلقة الأضعف في ألبوم تووليت رغم احتسابها ضمن محاولاته التجريبية لتقديم لون مختلف يستقطب جمهورًا جديدًا. لكن الأغنية مع ذلك بدت بعيدة تمامًا عن شخصيته الفنية التي أحببناها حيث الكلمة ليست شيئًا ثانويًا. هنا، جاءت الكلمات الإنجليزية مُقحمة دون مبرر، مما أضعف انسجام النص.
أما من ناحية الإنتاج الموسيقي فرغم اعتمادها على إيقاعات الأفروبيت التي برع بتقديمها كثير من المنتجين في المنطقة، إلا أن التنفيذ هنا جاء باهتًا وفقيرًا، يفتقر إلى الحيوية والتميز التي تتطلبها هذه التوليفة الإيقاعية.
وحشتيني
أغنية أخرى مثلت محاولة تجريبية شجاعة مثل "إنتي كريزي"، لكن دون استغلال صحيح للقالب المختار في الإنتاج الموسيقي. استعمال لحن الديب هاوس جاء مقاربًا للصورة الذهنية التي يرسمها تووليت في معظم أعماله الهادئة والمتأملة أو الحزينة، صورة حالمة ومشوشة جذابة، لكن أفسدتها بشكل كامل الكلمات التي سقطت في فخ النمطية.
أتت اللغة مباشرة ومكررة، لا تلتقط تفاصيل حميمية بعينها أو مشاهد ما أو حتى صفات تحرك المشاعر والحواس، ولم يضف إدخال تقنية الرسائل الصوتية في منتصف الأغنية للكلمات أو الحالة. وعلى صعيد الإنتاج الموسيقي، لم تفاجئنا الانتقالات في اللحن، والفاصل الذي تم فيه تكثيف البايس بدا مقحمًا، لكن بعض العلامات على البيانو أضفت لمسة منعشة.
حبيبي ده
الأغنية التي اختار تووليت أن يُسلط عليها الضوء ويُصدرها من الألبوم، من خلال تصوير كليب، أو فيلم قصير لها، هي أغنية "حبيبي ده". بصريًا، يحاول تووليت مجددًا أن يستند جاذبية شخصيته الغامضة المستترة خلف قناع. هذه المرة يختار أن يكشف عن طفولة بيرسونا تووليت، ليستعيد ذكريات أول حب.
ضم الفيديو تفاصيل جمالية ملفتة، تُعطي مبررًا دراميًا للقناع الذي يميز تووليت؛ فهو كان يشعر أنه غير مرئي حتى قبل أن يضع القناع. الكلمات تخدم فكرة الكليب، فهي تبدو كرسالة حب طفولية بسيطة، يؤديها تووليت بصوته الناضج.
أما من الناحية الصوتية، فلم يضف توزيع الأغنية جديدًا يُذكر، بل يكاد يستنسخ روح أغنيته السابقة "حبيبي ليه"، مع انخفاض في الجاذبية اللحنية.
عيون الناس مع أمير عيد
منذ أن تم الإعلان عن تعاون تووليت مع أمير عيد كنا نترقب، كيف سيتفاعل تووليت بهويته الموسيقية البصرية الخاصة وأسلوبه التجريبي الذي يُمثل محاكاة لأنماط موسيقية متعددة، مع أسلوب أمير عيد الوجودي وأسلوبه الخاص بموسيقى الإندي روك.
لكن النتيجة جاءت ضعيفة، فوجدنا أنفسنا أمام أغنية يهيمن عليها صوت أمير عيد وحده وتوجهه الموسيقي الذي أحببناه في أغاني مثل "بسرح وأتوه"، وكأن توو ليت ضاع في ظله، وتلاشت ملامحه الفنية.
ورغم ذلك، فإن الأغنية بها بعض اللمحات الشاعرية التي تميزها، فهناك إحساس مرير فيها؛ في بوح رجل أرهقته عيون الناس التي لا تراه. إنها ليست الأغنية المنتظرة من تعاون بين اسمين من بين الأبرز في موسيقى الإندي العربي، ولكنها تناسب أجواء خاصة، وتصلح لليالي الوحدة، عندما تتغلب المشاعر الكئيبة على صاحبها.
ضروري
من أكثر تجارب الألبوم جرأة وتميزًا، يغني فيها تووليت لأول مرة بلهجة غير المصرية، فيؤدي لهجة قريبة للهجة الشامية، ولكن المفاجئ أكثر للفنان المصري هو كتابته كلمات الأغنية بنفسه، مصيبًا المفردات والتعابير المحلية: "ما تنسيش مفتاح البيت/ ما تنسيش خان العمدان / وحتنجوز ونجن/ وتجيبيلي دستة عيال/ وأنا مش ناسي العدو/ حنررشهم برا الشام".
يزامن تووليت الكلمات مع تجسيد توزيعي وإيقاعي للموسيقى الشعبية في بلاد الشام، فنسمع وصلات الكيبورد التي باتت الأساس التي تنتظم عليه خطوط الدبكة في الأعراس الشعبية. وقد يكون المأخذ الوحيد على الأغنية الذي يمنع من حضورها في مرتبة متقدمة على القائمة، هو تشابهها الكبير مع أغنية "قسم الشكاوي" التي أصدرها تووليت في وقت سابق من مسيرته.
نارين
يخلق تووليت بذكاء جسرًا بين أغنيتي "ما تيجي أعدي عليكي" و"نارين" من خلال جملة "بيسألوني عليك … بيسألوني عليكي لسا" التي تذكر المستمع بجملة "بيسألوني عليك" التي صنعت ظاهرة موسيقية منذ صدورها العام الماضي.
ربما استمدت بعض العناصر من لحن "ما تيجي أعدي عليكي" أيضًا، لكنها تخطف الأذن بإيقاعها السريع وانضباطها التوزيعي، حيث يدخلنا المغني المقنع سريعًا في عالم "نار الهوى"مستعملًا في ذلك مزيجًا من سترينجات الجيتار الأسباني والبايس المضخم والصفقات المتتابعة.
يتنقل تووليت بأداء عذب دافئ بين ثلاثة حالات دون فواصل: الاشتياق، اللقاء بعد غياب طويل الذي لا نعرف إن كان حقيقيًا، الإصرار على إعادة أواصر العلاقة. دوامات المشاعر تلك هي العنصر الأكثر جاذبية بأغانيه، حتى لو شعرنا في بعض الأحيان أنها طفولية أو متقلبة أو غير ناضجة.
غريب حالي
في "غريب حالي" يغوص تووليت إلى النقطة الأكثر عمقًا في الألبوم، ليسمح لنفسه بأن يبوح بمكنونات صدره للعتمة. يترك الكلمات تمشي على لحن خافت، تشده أوتار الجيتارات الرقيقة وكأنها أنفاس آخر الليل، ويدعمها صوت بيانو. إنها الأغنية الأكثر سوادًا في الألبوم رغم بساطة كلماتها، ، يبدو فيها تووليت هشًّا وتائهًا، لكنه مُدرك لكونه مُصاب بخلل بالإدراك؛ الأبعاد والمسافات والمعاني لا تأخذ بالضرورة حجمها الحقيقي.
أغنية شاعرية قاسية، يقسو بها تووليت على ذاته؛ فهي لا تمثل اعترافًا بالحب والشوق والرغبات، بل تمثل أيضًا اعترافًا بالاضطرابات الذاتية، التي يعكسها تووليت بأفضل أداءاته في الألبوم.
حسيني
تُعد "حسيني" واحدة من أجمل محطات الألبوم، ففيها رومانسية حساسة تزخر بالمشاعر الدافئة، مدعومة بتوزيع حي غني يتكئ على الجيتار والبايس والبيركاشن، الأمر الذي أضفى على اللحن الذكي والعذب الذي وضعه تووليت بنفسه لمسة حقيقية آسرة.
منذ اللحظة الأولى تخطفك الأغنية رغم تناولها لموضوع تقليدي كمشاعر الحب في بداياته، إلا أن تووليت يبرع في تقديمه بأسلوب حميمي يجعل المستمع يشعر وكأنه يغني له خصيصًا أو يغني معه.
"برتاح وياك وأنا ماسك إيديكي وعيني عليكي / وعالطريق إحساس مش هداريه" بهذه الكلمات البسيطة يصف تووليت لحظة عابرة يعيشها كثيرون في الحب، حيث تُصبح صحبة الحبيب في السيارة تجربة مشبعة بالعاطفة. ببراعة وصدق ينجح في وضع المستمع داخل المشهد ليشعر وكأنه هو من يعيش هذه اللحظة لا فقط يسمعها.
شديني
الأغنية الأكثر ابتكارًا وإبداعًا في الألبوم. نفذ تووليت التوزيعات بأسلوب يعكس عمق فهمه الموسيقي وحساسيته للآلات الحية وأثر كل منها في الوجدان.
نفتتح التراك مع صوت السنث المعدل، ويختتم مع العود، أما بينهما فتتزخرف الجمل اللحنية البسيطة بأصوات الآلات الشرقية الحية التي تعزف بحساسية عالية، تشعرنا أننا أمام موسيقى عمل درامي ضخم ومؤثر. والجدير بالذكر هنا أن مهندسة الماسترينغ المصرية العالمية هبة قدري هي التي أنجزت الماسترينغ لهذه الأغنية، وأنها بعد عملها مع أسماء إندي عالمية مثل بيورك وبيج ثيف وغيرهم، كانت تنتقي مشاريع محدودة من المنطقة لتضع بصمتها النهائية عليها.
"شديني" هي حتمًا التجربة الأكثر أصالة ضمن هذا الألبوم، ورغم أن التأثر بتجارب وأنواع موسيقية أخرى كان هو الغالب في ألبومين طويلين أطلقهما تووليت حتى الآن، إلى أن هذه الأغنية هي أكبر إثبات على قدرته كفنان على الابتكار والتجديد وتقديم بصمة خاصة.
اشترك في كتابة هذه القائمة كل من نورهان أبو زيد وهلا مصطفى وعمر بقبوق ويوسف علي.