زياد ليس "شخصية عامة" بالمعنى المتداول، لكننا عرفناه دون أن نلتقيه. ليس لأنه لم ينفصل عن ذاته ومحيطه فقط، ولا لأنه ابن فيروز وعاصي، الذي استطاع أن يكون، بحق، "ابن الحمرا"، كما وصفته كثير من شهادات الناس في مراسم وداعه.
كنت أعرف محبتي، وربما محبة جيل كامل لزياد، لكنني مع ذلك، لم أعتقد يومًا أنني سأحزن على موت شخصية عامة بهذا الحجم، خاصة مثل زياد، الذي لطالما سخر من تقديس الفن والفنانين، وكان كل ما يباغت بسؤال: ما رأيك حين تصفك الناس بالأسطورة؟ ارتسم على وجهه ذلك الارتباك الممتزج بشعور "الكرينج"، ليجد طريقة ما للتهرب من السؤال، بمزيد من السخرية وحتى هدم الذات!
شهدنا في رحيله تجمعات ضخمة، بكاء جماعي، وتغطية إعلامية واسعة النطاق، وحتى تصريحات من فنانين خرجوا عن "النص" وتجاوزوا لغة الإعلام الخشبية التي نسمعها في مقابلاتهم، ليرووا قصصهم الشخصية مع زياد ومشاعرهم الصادقة نحوه.
كنت قد سمعت من قبل عن موجات اكتئاب وحزن جماعية تسببت بها وفاة الفنان. في حالات أخرى، بلغت حد الاكتئاب الحاد، أو حتى الانتحار، كما حدث مع معجبات عبد الحليم حافظ بعد وفاته، حين صدرت تقارير صحفية بوقوع ثلاث محاولات انتحار في الليلة نفسها، توفّيَت منها فتاتان، فيما نجت الثالثة.
أم كلثوم أيضًا، حين شُيّعت في الخامس من فبراير 1975، شارك في وداعها ما يُقدَّر بأربعة ملايين شخص. بكَت القاهرة كلها، وتحول الحدث إلى ما يشبه الحداد القومي.
لم أعاصر يومًا حدثًا مشابهًا، حتى جاء موت زياد، ووجدت نفسي فجأة في هوة حزن، تتسع كل يوم، ولا تصغر. قرأت تعليقات تصف رحيله كسكّين حاد يقتطع من لحم الروح. آخرون قالوا إنهم شعروا بموته كأنهم فقدوا فردًا من العائلة، وآخرون اعتبروا رحيله نهاية مرحلة، أو زمن.
المفارقة، أن "مزاج" زياد لم يكن من النوع الذي يسمح لكل هذا الحزن. هو الذي سخر من المبالغة، من التعابير المنمقة، ومن ميلودرامية الرثاء.
وفي محاولة فهم أسباب هذا الحزن العارم، قرأت عن ظاهرة قد تفسر هذا التعلق؛ "العلاقة شبه الاجتماعية"، أو "الباراسوشال ريليشنشيب". علاقة أحادية الجانب، وهمية في ظاهرها، لكنها الأكثر حقيقية في جوهرها أيضًا. صاغ هذا المفهوم عالما النفس دونالد هورتون وريتشارد وول عام 1956، حين لاحظا تفاعل المشاهدين مع شخصيات التلفزيون، واصفين الحالة بأنها "وهم الألفة" مع الفنان.
ثمة أيضًا تماهٍ يعيشه الإنسان، حين يرى في الفنان امتدادًا لذاته، أو تجسيدًا لشيء يريد أن يكونه. ثم تأتي هوية الجماعة، أو Social Identity، حين يتحول حب الفنان إلى هوية مشتركة بين أفراد، عبر عنها أحدهم حين كتب: "يكفي أن أعرف أنك من محبي زياد، حتى أثق بك".
وهناك الحنين أيضًا. زياد لا يمتلك أحلامه فقط، بل شيئًا من أحلامنا أيضًا، ولحظات الشك والتساؤل والفقدان الذات لصالح "الشعبوي" و"الاستهلاكي"، ثم محاولة استردادها من جديد، إلى أن يغدو هذا التنازع عودًا أبديًا، يسمى أيضًا حياة!
لكن مع زياد، الأمر أكثر تعقيدًا!
فهو ليس نجمًا حاضرًا على الساحة. لم يملأ الشاشات، ولم يكن يومًا ودودًا مع الصحافة أو الإعلام. في السنوات الأخيرة، دخل في طور انكفاء طويل، حتى قيل إنه بالكاد كان يتواصل مع محيطه.
قال رفاقه أنه رفض العلاج؛ أنه "انتحر" بشكل غير مباشر. انسحب من الحياة الفنية، ثم الاجتماعية، ثم الشخصية، لينطفئ بهدوء.
وعلى قدر اشتياقنا له، جاء الحزن كثيفًا، شاسعًا، كالأبد.
وفي مقابل كل هذا، ثمة من يقول أنه لو كان زياد حيًّا، لسخر من كل شيء. من الرثاء، من النعوش، من الصور، ومن العبارات التي تنسب له يوميًا. وهو، كما نعرفه، لم يكن ليحب أن تتحول جنازته إلى حدث عام، أو أن تُكتب فيه عشرات المراثي.
ومع ذلك، ها نحن نكتب.
ربما، لأننا في وادع زياد، كنا نبحث أيضًا عن مساحة للحداد.