احتفالًا بعيد ميلاده السابع والسبعين، نعود مجددًا إلى أرشيف عمر خيرت الموسيقي، الذي تحوّل عبر السنين إلى سجل وجداني جمعي، تَحفَظ فيه الألحان ملامح الشخصيات الدرامية التي كبرنا معها، كما تحفظ ذكرياتنا في خروجات السينما والسهرات العائلية على التلفزيون.
كل عمل من أعمال عمر خيرت يبدو نافذة على زمنٍ ما، أو حكاية لم تكتمل إلا مع نغماته. في أعماله تتجاور الدهشة مع الحنين، وتلتقي الكلاسيكية الغربية بروح الأحياء المصرية. يخلق ذلك مزيجًا لا يشبه سواه. لم تكن موسيقاه خلفية للأحداث بقدر ما كانت شريكًا فيها، تُعبّر عن نبض الشخصيات وتكشف ما وراء الصمت.
هنا اختار بعض أعضاء الفريق مجموعة من المقطوعات المفضّلة من أرشيفه الكبير؛ ليست استعادة لألحان أحببناها، فقط، بل محاولة للاقتراب أكثر من عالم فنان علّمنا كيف تُروى الحكايات بالموسيقى.
100 سنة سينما
يجعل عمر خيرت عناصر اللحن المتنوعة تسابق بعضها، من البيانو إلى الدفوف وصولًا للكمانجات والأبواق، بدا ذلك مقدمة مثالية للتعريف بإرث فني عريق من مئة عام هي مسيرة السينما المصرية حينها (1996).
حافظ عمر خيرت على الإيقاع السريع طوال الأغنية دون تنقّلات كثيرة. وأوجد إحساسًا متواصلًا بالحركة، للتدليل على مسيرة صناعة لم تتوقف على مدار السنوات.
شارك عمر خيرت هنا صوت أنغام العذب وطلعت زين الخشن نسبيًا في تتويج اللحن وإظهار المناسبة، خلق ذلك إيقاع حميمي وقوي في آن؛ بدا جسرًا متواصلًا بين الريادة التي بدأت قديمًا والاستمرارية التي بُنيت على أساسه. مزيج من اللطف والصلابة في الصوتين إلى جانب اللحن.
لا تزال "100 سنة سينما" من الألحان التي تستعمل وتوضع على مقاطع تعرض لحظات الإنجاز المصرية سواء في المجالات الرياضية أو العلمية أو غيرها، إذ لم تكن فقط لتسليط الضوء على نجومية صناع السينما المصريين. هذا لحن استثاغه الجميع. *من اختيارات يوسف علي
فيلم "إعدام ميت"
من ركائز مسيرة عمر خيرت أعماله المرتبطة بالقومية المصرية، سواء كانت المظاهر المعيشية العامة في المدينة أو الأرياف، أو حتى مشاركته في الأعمال الفنية التي تناولت التفاصيل العسكرية في فترات التوتر التاريخية.
جمعت موسيقى "إعدام ميت" بين الصرامة والانضباط المتمثلين في عزف الأبواق الجماعي والكمنجات، وهو ما يعطي حالة من التصعيد والترهيب، مع حضور بساطة الشارع في وصلات العود، ووجود البيانو ليضبط الإيقاع في هذه التوليفة. مزج يعبر عن أصالة الكفاح المصري الموجود في الشعب والشارع كما في المعركة. *من اختيارات يوسف علي
مسلسل "غوايش"
عندما تُذكر موسيقى عمر خيرت تتداعى إلى الذاكرة أعمال كثيرة ارتبطت بأجيال كاملة، ربما من بينها هنا موسيقى مسلسل "غوايش" التي أعتبرها من أحب أعماله إلى قلبي.
مسلسل "غوايش" من إنتاج عام 1986، يحكي قصة فتاة تبيع الحُلي متنقّلة مع عائلتها بين المحافظات، إلى أن تلتقي بـ"حسانين" - ابن العمدة- في إحدى قرى الصعيد، وتقع في حبه. وسريعًا ما يقرران الهروب والزواج رغم كل ما يواجهانه من عراقيل اجتماعية. للأسف لا أتذكر تفاصيل الحكاية كاملة لكني أتذكر تمامًا ما جعلها عالقة في ذاكرتي، لحظات الحب والغرام التي شاهدتها بعيني الطفلة والانفعال الصادق الذي حمله العمل كله.
كانت الموسيقى في "غوايش" بمثابة القلب النابض للمسلسل؛ دافئة وحنونة ومفعمة بذلك الإحساس بالأمان الذي يبحث عنه الحبيبان. وربما ما جعل تأثيرها أعمق في نفسي هو صوت علي الحجار الذي غنى شارة البداية والنهاية والأغاني داخل العمل بكلمات من أشعار سيد حجاب وبالتأكيد ألحان عمر خيرت ليشكل هذا الثلاثي لوحة فنية يصعب نسيانها.
حتى اليوم تبقى مقطوعة "في هويد الليل" من أجمل ما سمعته في الدراما المصرية سواء في نسختها الموسيقية أو بصوت علي الحجار وهو يقول: "في هويد الليل ولاقيتك / ما أعرف جيتني ولا جيتك". وفي كل مرة أسمعها يعود بيّ الزمن إلى تلك الأيام، وأدرك كيف يمكن لموسيقى عمر خيرت أن تلمس القلب ببساطة وصدق دون أن تحتاج إلى أي شيء آخر. *من اختيارات نورهان أبوزيد
مسلسل "البخيل وأنا"
من بين العلامات الموسيقية البارزة في أرشيف عمر خيرت تظل موسيقى مسلسل "البخيل وأنا" واحدة من أكثر الأعمال التصاقًا بذاكرة المشاهد المصري. المسلسل بطولة فريد شوقي الذي كتب قصته بنفسه أيضًا، قدم خلاله معالجة كوميدية اجتماعية لواحدة من الصفات الإنسانية التي طالما استفزته: البخل.
يروي المسلسل حكاية "عوض" تاجر الشنطة المهووس بتكديس المال لدرجة أن بخله يتجاوز المنطق. يحرم أسرته من أبسط حقوقهم، ويعيش حياة أقرب إلى الحرمان الذاتي. المفارقة أن عوض ينتهي به الحال بالموت دون أن يتمكن من الاستمتاع بأي مما جمعه. كأن القصة تحذيرًا ساخرًا من مصير من يجعل المال غايته الوحيدة.
لكن ما جعل هذا العمل متكاملا بحق هو الموسيقى التصويرية التي وضعها عمر خيرت، التي جاءت كمرآة فنية لروح العمل. فقد نجح في دمج الحس الفكاهي مع نكهة مصرية أصيلة من خلال الإيقاعات الشرقية التي تنبض من قلب "وسط البلد"، لا سيما أن أحد أشهر صور المسلسل يظهر فيه فريد شوقي واقفًا بحقيبته أمام ميدان التحرير.
موسيقى عمر خيرت لم تكن مجرد خلفية تصويرية بل تحولت إلى شخصية موازية لبطل العمل، تجسد تقلباته النفسية ومواقفه الكاريكاتيرية وتسهم في نقل تلك المفارقات الساخرة التي شكلت جوهر المسلسل، ولهذا السبب ظل "البخيل وأنا"بموسيقاه المصاحبة حاضرا في وجدان أجيال مختلفة. *من اختيارات نورهان أبوزيد
فيلم "قضية عم أحمد"
تبدأ المقطوعة بنغمة تشي بالتوتر والمواجهة، ثم تتحوّل تدريجيًا إلى ألحان أكثر دفئًا وإنسانية، لتعكس الحياة في الحي الشعبي وعلاقات سكانه المتشابكة. يرسم كل ذلك الإطار السمعي للفيلم الذي يخوض فيه عم أحمد صراعًا مع مقاول يسعى لطرده من منزله، بينما تنشأ قصة حب بين حفيدته وابن المقاول.
في هذا العمل ينسج عمر خيرت بالموسيقى حكاية عن الكرامة والمقاومة، تجمع بين الشجن الشعبي ورهافة الأوركسترا، فيتحول العود إلى صوت الحارة، والكمان إلى صدى الأمل. كأن اللحن يقول: "الفقر لا يسلب الإنسان إنسانيته ما دام قلبه عامرًا بالحب".
وحين تتلاشى النغمات الأخيرة، تتركك الموسيقى أمام صورة مكثفة لمصر التي يعرفها خيرت جيدًا: متعبة وجميلة ومصمّمة على أن تحيا رغم كل ما تواجهه. *من اخيتارات عمر بقبوق
فيلم "ليلة القبض على فاطمة"
تبدأ المقطوعة بنغمات رتيبة، تُخفي ما يضجّ تحت سطح الهدوء. ثم تتسارع الإيقاعات تدريجيًا، لتواكب تصاعد الحبكة: فاطمة، التي ربّت أخاها جلال، وضحت بخطوبتها وعملها لتمنحه فرصة الحياة، تُفاجأ بأن هذا الأخ يُسلّط منصبه عليها، ويُتهمها بالجنون. يستخدم كل أدوات السلطة لطردها من منزلها.
في هذه الموسيقى، يرسم عمر خيرت لوحة صوتية تعكس التوتر الداخلي: الكمنجات تحمِل صوت الخوف الذي يتملّك فاطمة حين يزحف حولها الظلام، والبيانو يشقّ موجة من الحيرة والضعف. والإيقاع يتسارع كأنّه خطوات تَقُود إلى حافة الهاوية. وتتداخل الأصوات يرسم صورة عن البيت الذي تربّت فيه فاطمة قبل أن يتحوّل إلى ساحة مواجهة. هنا، لا تشكّل الموسيقى خلفية للمشهد فقط، بل هي بطل ثانٍ يروي ما لا يُقال في الحكاية، التي تستنزف تعاطف المشاهدين. *من اخيتارات عمر بقبوق






