البث الرقمي يغذّي النمو الإقليمي
يأتي إطلاق تقرير Loud & Clear من سبوتيفاي في مصر في لحظة محورية بالنسبة لاقتصاد الموسيقى في المنطقة. ووفقًا لتقرير IFPI Global Music Report، كانت منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أسرع سوق نموًا في العالم للموسيقى المسجّلة في عام 2024، مع زيادة في الأرباح بنسبة 22.8% على أساس سنوي. وقد شكّل البث الموسيقي نسبة مذهلة بلغت 99.5% من هذا النمو، ما يؤكد دوره كمحرّك اقتصادي رئيسي للموسيقى المعاصرة في المنطقة.
ومع تحوّل بنية الصناعة من النماذج التناظرية إلى الخوارزميات، لا يكتفي الفنانون المصريون بالتكيّف مع التغيير، بل يسرّعون وتيرته. فهم يوسّعون قاعدة جماهيرهم، ويبنون مسيرات فنية مستدامة، ويصدّرون صوتًا محليًا بامتياز إلى الساحة العالمية.
ومع هذا النمو، تبرز ضغوط جديدة لضمان حصول الفنانين الإقليميين ليس فقط على منصات عالمية، بل أيضًا على تمثيل عادل، وعقود شفافة، وبنية تحتية محلية يمكن أن تدعم مسيراتهم على المدى الطويل.
الموسيقى المصرية تعبر الحدود بسرعة
تكشف بيانات سبوتيفاي الأخيرة عن صورة واضحة: الموسيقى المصرية تسافر، وبسرعة! ففي عام 2024، جاءت أكثر من 80% من أرباح الفنانين المصريين على سبوتيفاي من مستمعين خارج البلاد، وتصدرت الأسواق الدولية الكبرى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا والهند وإندونيسيا وتركيا والبرازيل.
وتحكي الأرقام قصة اكتشاف متسارع: تم بث الموسيقى المصرية من قبل مستمعين جدد أكثر من 480 مليون مرة في عام 2024، وارتفع الاستهلاك العالمي لها بنحو 60% على أساس سنوي منذ انطلاق سبوتيفاي إقليميًا في عام 2018.
ويُعدّ هذا الارتفاع في الصادرات الموسيقية لافتًا بشكل خاص لسوق لطالما كان مغيّبًا عن المنصات الدولية. ويطرح تساؤلًا مهمًا: كيف يمكن لمصر أن تحوّل هذا الفضول العالمي إلى رأسمال ثقافي ونفوذ صناعي طويل الأمد؟
الموسيقى باللغة العربية تكتسب زخمًا عالميًا
يعكس زخم البث في مصر تحولًا ثقافيًا أوسع: صعود الموسيقى باللغة العربية على المنصات العالمية. فقد جاءت اللغة العربية ضمن أسرع خمس لغات نموًا على سبوتيفاي في عام 2024، إلى جانب اليونانية والتيلوغو والتركية والبولندية. نتيجة مباشرة لحركة التصدير هي أن الموسيقى باتت أكثر تنوّعًا من أي وقت مضى. أصبح الفنانون يسجلون ويؤدّون أعمالهم بعدد أكبر من اللغات، ولم يعد النجاح مرتبطًا بسوق واحدة فقط. فعلى مستوى العالم في عام 2024، سجّل الفنانون الذين حققوا ما لا يقل عن مليون دولار من عوائد البث أعمالًا موسيقية بـ17 لغة مختلفة - وهو ضعف عدد اللغات المسجّلة في عام 2017. كما تم تمثيل أكثر من 50 لغة بين الفنانين الذين تجاوزت أرباحهم 100 ألف دولار على منصة سبوتيفاي خلال عام 2024.
ويشكّل هذا الصعود اللغوي تحديًا للمفاهيم التقليدية حول ما يُعتبر "عالميًا" في الموسيقى. ففيما كانت الإنجليزية تهيمن على قوائم التشغيل الرقمية، فإن العصر الجديد للبث بات متعدد اللغات، ويعكس بشكل شفاف عادات الاستماع الحقيقية في العالم.
الاستماع المحلي في تصاعد
رغم أن الموسيقى المصرية تسافر بعيدًا، إلا أنها تزداد قوة أيضًا على أرضها. فقد ارتفع البث المحلي للموسيقى المصرية بنسبة تفوق 70% خلال عام 2024 وحده، وازداد عدد المستمعين المحليين على سبوتيفاي بنسبة 450% منذ عام 2018. وأكثر من 80% من الأغاني المدرجة في قائمة "أفضل 50 يوميًا" على سبوتيفاي مصر في عام 2024 كانت لفنانين مصريين، ما يؤكد أن الجمهور المحلي يحتضن المواهب المحلية بحماس متزايد.
ويدل هذا النمو المزدوج، من حيث التصدير العالمي والاستهلاك المحلي القوي، على منظومة صحية تنضج باستمرار. ولكن، مع فتح البث الرقمي أبوابًا جديدة، هل ستمكن القطاع الموسيقي في مصر من مواكبة هذا المستقبل الرقمي المتسارع؟
فصل جديد للموسيقى المصرية
تقرير Loud & Clear من سبوتيفاي، الذي أُطلق في مصر لأول مرة هذا العام، ليس مجرّد تجميع للبيانات، بل يعكس تغيّرات جوهرية في كيفية إنشاء الموسيقى واستهلاكها وتحقيق الدخل منها في مختلف أنحاء المنطقة. من صادرات موسيقية تتخطى الحدود النوعية، إلى صعود اللغة العربية كلغة أساسية للبث، أصبحت قصة مصر الموسيقية اليوم قصة عالمية.
مع اتّساع البصمة الموسيقية لمصر، تبرز مجموعة من الأسئلة: ماذا يعني هذا الصعود المدفوع بالبثّ لمستقبل الموسيقى العربية على الساحة العالمية؟ كيف يمكن للفنانين والعاملين في القطاع استثمار هذه البيانات، ليس فقط من أجل الظهور، بل لتحويلها إلى فرص فعلية، من الجولات الدولية وحجوزات المهرجانات، إلى الشراكات التجارية وصفقات التراخيص الموسيقية؟
الشيء المؤكد هو الآتي: لم تعد الموسيقى المصرية تنتظر من يكتشفها. لقد شقت طريقها، والعالم بدأ يستمع، والآن صارت معالم المرحلة القادمة أمامها واضحةً لتتابع رحلتها.