يحتفل النجم الكبير عمرو دياب بعيد ميلاده الرابع والستين، منهم أربعة عقود تُشكل مسيرته الفنية التي توجته كأحد أساطير الأغنية العربية، بل وربما أنجح مطربيها وأكثرهم شعبية في العصر الحديث.
تفاصيل صغيرة صنعت قصة عمرو دياب الكبيرة، وحولته إلى أسطورة حية قادرة على الاستمرار والنجاح عبر أجيال مختلفة، محتفظًا بشغفه وتجدده وشبابه دون أن تهتز مكانته وسط أمواج الموسيقى المتقلبة، وأسماء المنافسين المتوهجين من حين لآخر.
سر عمرو دياب لم يملكه كثيرون، بل هو خلطة سحرية ورثها من عمالقة الأغنية أم كلثوم وعبد الحليم وموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب الذي يراه دياب نموذجًا للمسيرة الأيقونية والبقاء على القمة مهما مر الزمن، ولكن ما هي مكونات هذا السر الذي اقتنصه الهضبة من العمالقة وصنع منه إكسير شبابه الفني الدائم؟!
الجرأة والتطوير نحو العالمية
منذ بداياته وحتى الآن ظل عمرو دياب عنوانًا رئيسيًا للتطوير الموسيقي في الأغنية المصرية والعربية، فرغم انطلاقته على يدي الموسيقار هاني شنودة في ألبوم "ياطريق" إلا أنه لم يبق أسيرًا لتجربة مكتشفه، وبحث بعدها عن شفرة النجاح مع موسيقيين آخرين مثل الموزع الموسيقي الكبير فتحي سلامة والموزع الراحل محمد هلال وكليهما كان له اسهاماته في تطوير البوب ومزجه بإيقاعات الفولكلور انعكست على أغاني عمرو دياب مثل "أشوف عنيكي" و "بتغني لمين يا حمام" و "هلا هلا".
وعندما صَك حميد الشاعري جنرا موسيقية خاصة به في نهاية الثمانينيات بتطوير المقسوم راح عمرو دياب ليتعاون معه في سلسلة من الألبومات الناجحة مثل "ميال" و"متخافيش"، إلا أنه عندما رأى أن هذا القالب الموسيقي الإلكتروني أصبح سائدًا ومكررًا، توجه لاستعادة الماضي مستعينًا بعازف الساكسفون الشهير سمير سرور في أغنية "حبيبي" مع الموزع حسام حسني.
كان عمرو دياب يبحث عن روح أغاني عبد الحليم ليغير بها ما أسماه كبار الموسيقيين بالأغنية "الشبابية" فأثبت لهم أن تجربته قادرة على استيعاب أصالة الماضي وسرعة العصر الحديث.
وفي منتصف التسعينات قاد أهم نقلة موسيقية في الأغنية العربية الحديثة عندما عبر حدود الوطن العربي على إيقاعات الفلامنكو الإسباني بأغنية "نور العين"، في وقت كان أبناء جيله يكتفون بالنجاح المحلي، بينما هو يثبت للجميع أن الأغنية العربية قادرة على الوصول للعالم.
هذه الفلسفة أصبحت جوهر مشروعه الموسيقي عندما قدم موسيقى اللاتين بوب في "قمرين" و"تملي معاك"، ثم مزج موسيقى التكنو إيقاعات الطبلة الشرقية في "حبيبي ولا على باله"، وتابعه اقتحامه عالم الموسيقى الإلكترونية وإيقاعات الهاوس الصاخبة في "وياه".
حتى عندما أغرق تسونامي "المهرجانات" الأغنية المصرية، لم يستسلم ويتهم الجمهور بانحدار الذوق العام مثلما قال كثير من زملائه، بل واكبها على مستوى الكلمة والإيقاع مستعينًا بثنائية الملحن عزيز الشافعي والشاعر تامر حسين في أغاني "يوم تلات" و "انت الحظ" ليفتح الباب أمام مطربي البوب كي يتجرأوا على أغانيهم التقليدية، ثم فاجأ الجميع في أحدث ألبوماته "ابتدينا" عندما مزج إيقاعات الأفروبيت والدانس هول العالمية بالربابة والمزمار المصري ليصنع خلطة مدهشة تخاطب كافة الأذواق والثقافات.
الموضة من جيمس دين إلى بلوفر تملي معاك
أدرك عمرو دياب أن المظهر جزء من صناعة الأيقونة، وأن الصورة الذهنية وسيلة تسويق النجم ومفتاح تأثيره في وجدان الشباب والمراهقين، مازلنا نتذكر شخصية سيف في فيلم "آيس كريم في جليم" مرتديًا السترة الجلدية الشهيرة لجيمس دين والبنطلون الجينز. حينها تحول عمرو دياب إلى موضة هذا الجيل، قلد الشباب تسريحة شعره في كليبات "نور العين" و"قمرين"، ارتدى الملايين نسخًا من نفس الـ "بلوفر" الشهير الذي ظهر به في أغنية "تملي معاك"، واستمر عامًا بعد الآخر يوجه بوصلة الشباب نحو الموضة تارة بقصات شعر ملونة وقمصان جريئة واكسسوارات تخطف الأنظار.
لم يتوقف عمرو عند حدود الزمن ولم يجعل العُمر عائقًا أمام مواكبته للموضة، حافظ على لياقته البدنية وصحته وهيئته الشابة، فصدّر للجمهور صورة الرجل الرياضي الذي يظهر على غلاف ألبومه "الليلادي" مستعرضًا عضلات صدره وكتفيه في أجرأ أغلفة ألبوماته، وتجرأ أكثر ليظهر في غلاف ألبوم "وياه" وقد وشم ذراعه باسم ابنه عبد الله قبل أن تستمر رحلته مع وشوم أسماء عائلته على ذراعية. حتى عندما ظهر في السنوات الأخيرة وهو يرتدي أقراط الأذن تحدى كل الانتقادات، وأصر على مواكبة ثقافة عالمية يتعايش الغرب حتى لو رفضها الكثيرون في الوطن العربي.
"الاستقلالية الإنتاجية" .. أملك صوتك وأضمن بقاءك
سر آخر من أسرار رحلة الهضبة يكمن في الاستقلالية الإنتاجية، فرغم تعاوناته مع كبرى شركات الإنتاج في الوطن العربي، إلا أنه فطن مبكرًا لتغيرات السوق التي فرضتها التكنولوجيا، فكان من أوائل من سعوا للاستقلالية بتأسيس شركته "ناي" التي تتولى تنفيذ إنتاج أغانيه وألبوماته وإدارة أعماله، مع عقد شراكات مع كبرى الشركات الراعية ومنصات الموسيقى بشرط أن يكون "الهضبة" صاحب القرار الأول والأخير في شكل المُنتج الغنائي وتوقيت صدوره وحجم وفلسفة الدعاية المصاحبة له، مما ضمن له الخروج من دائرة منافسة النجوم داخل الشركات.
هذه الاستقلالية الإنتاجية صاحبتها غزارة واستمرارية في الإنتاج تحديدًا خلال السنوات العشر الأخيرة. ولكن المتابع لمسيرة الهضبة سيدرك جيدًا حرصه على الاستمرارية سواء بطرح الألبومات الغنائية سنويًا أو على أقصى تقدير كل عامين، لتتزين مسيرته بـ 37 ألبومًا خلال أربعين عامًا بجانب عشرات الأغاني المنفردة.
رقم ضخم لم يحققه أي من أبناء جيله أو الجيل التالي، ولهذا لم يكن غريبًا أن تتوسع شعبية الهضبة بين الأجيال المختلفة خاصة وأنه لم يسقط في فخ التوقف أو الإنقطاع عن تقديم الأعمال لسنوات مثل كثير من زملائه الذين ابتعدوا عن الساحة وعادوا فوجدوا صعوبات بالغة في تقديم أنفسهم للأجيال الجديدة وباتوا بالنسبة لهم جزء من حالة النوستالجيا .
قليل من الإعلام .. قليل جدًا من المعارك
تعلم عمرو دياب مبكرًا عدم تكرار السقوط في فخ التصريحات الإعلامية والصحفية، رغم أنه تورط في هذه الأفخاخ حتى منتصف التسعينيات، إلا أنه نجح في بناء حاجز "ذكي" بينه وبين الإعلام. قلت حواراته الصحفية حتى أنها قد تعد على أصابع اليد الواحدة في العشرين عامًا الأخيرة، آخرها في الصحافة المصرية كان منذ عشر سنوات تقريبًا.
أقلع تمامًا عن الظهور في البرامج التلفزيونية رغم الإغراءات المالية الضخمة، أصبحت تصريحاته مقتصرة على المناسبات التي يتواجد فيها أو مع صدور ألبوم جديد له، وجميعها محدودة جدا ولدقائق معدودة مع صديقه الإعلامي عمرو أديب.
يرفض الخوض في أي معارك إعلامية مع زملائه مهما حاول البعض جره إليها، استخدم منصاته عبر مواقع التواصل الاجتماعي في الترويج لفنه فقط فاصلًا تمامًا بينه وبين حياته الشخصية التي مهما أثير الجدل حولها بقي هو صامتًا متمسكًا بهذه الفضيلة كستار يحمي صورته الذهنية ومكانته وجماهيريته بذكاء وحكمة.
حتى وسط الصخب السياسي أو الأحداث والتحولات الكبرى، امتنع كليًا عن الإدلاء بآراء وتصريحات، بل اكتفى بأن يكون فنانًا بعيدًا عن أية حسابات أو مواقف يدفع ثمنها فيما بعد.
ونحن نحتفل مع جمهوره بعيد ميلاده، يدرك هذا الجمهور الآن أن القمة التي تربع عليها عمرو دياب لعقود طويلة لم تأت من فراغ بل بخبرات متراكمة وذكاء وشغف مستمر وإخلاص حقيقي للفن قبل أي شيء.