في شتاء 2022 التقيت محمد منير في منزله. جمع "الكينغ" أعضاء فرقته بقيادة الموسيقار فتحي سلامة لبروفة تحضيرية لحفل رأس السنة الذي سيحييه بمنطقة الأهرامات.
جلسنا نتبادل أطراف الحديث وأكواب الشاي. الحميمية التي ينثرها منير بين ضيوفه تزرع حنينًا جارفًا لحكايات أغانيه، خاصة عندما دلفنا إلى غرفة البروفة، وبدأ سلامة في توجيه الفرقة لتعزف الفاصل الموسيقي الشهير في بداية أغنية "شبابيك". عاد منير بنا وبالزمن لأكثر من أربعين عامًا وهو يشدو "أنا بعت الدموع والعمر/ طرحت جنايني في الربيع الصبر"، بينما يأتي صوت الوتريات كشلال هادر كلما أعادت عزف الفاصل الموسيقي الذي ألفه فتحي سلامة عام 1981.
في طريق عودتي، ظللت أعيد سماع "شبابيك" طوال الطريق. لقد ولدتُ في عام صدور الألبوم، فما الذي جعله يعيش كل هذه السنين، في زمن باتت تُحسب فيه أعمار الأغاني بالشهور؟
نقطة التحول
لعلنا نستطيع تقسيم الموسيقى المصرية الحديثة إلى مرحلتين، ما قبل "شبابيك" وما بعده. كان الكينغ قد قدم تجربتين سابقتين مع الموسيقار هاني شنودة في ألبومي "علموني عنيكي" و"بنتولد"، غير أننا يمكن أن نعتبرهما إرهاصات أولى لتأسيس مشروعه الغنائي الجديد، الذي تجلى مع "شبابيك".
ولد محمد منير في مهد التمرد على سلطة الأغنية المصرية الكلاسيكية، فمع رحيل رمزيّ هذه السلطة - أم كلثوم وعبد الحليم حافظ- في منتصف السبعينيات، بحثت الأغنية المصرية عن أصوات جديدة تضخ الدماء الشابة في شرايينها الشائخة، أصوات قادرة على الخروج من نفق الأغنية العاطفية الضيق.
وجد الشاعر عبد الرحيم منصور والموسيقار هاني شنودة ومعهما الملحن النوبي أحمد منيب ضالتهم في الشاب الأسمر القادم من بلاد النوبة. وجاءت الانطلاقة الأولى في ألبوم "علموني عنيكي" (1977)، لكن الألبوم لم يلق النجاح المنشود في مرحلة التحول من الإسطوانات إلى شرائط الكاسيت، كما أن موضوعات الأغاني الاجتماعية والفلسفية -بصورة زائدة عن الحد ربما- صدمت المستمع كونها خارج السياق العاطفي المعتاد، مثل أغنية "ياعذاب النفس" و"قول للغريب" و"يا بلاد ياغريبة".
كانت حكايات الغرباء داخل أوطانهم قريبة من هوية منير القادم إلى القاهرة محملًا بحنين جارف إلى موطنه الأصلي. ومن هنا تكونت نواة المشروع الذي لاقى نجاحًا أكبر قليلًا في التجربة الثانية في ألبوم "بنتولد" (1978).
توقف مشروع محمد منير مع هاني شنودة عند هذه النقطة، خاصة وأن الأخير صب اهتمامه الأكبر على فرقة المصريين. في ذلك الوقت قرر عازف الدرامز يحيى خليل العائد من الولايات المتحدة تأسيس مشروع غنائي قائم على تمصير الجاز ومزجه بالأنماط الموسيقية المعاصرة، فوجد ضالته في صوت منير ليكون الضلع الخامس في فرقته التي يقودها بنفسه عازفًا للدرامز، ومعه عازف الكيبورد فتحي سلامة، وعازفا الجيتار عزيز الناصر ومايكل كوكس.
جاءت تجربة "شبابيك" أكثر نضجًا وبلورة لمشروع منير من التجربتين السابقتين، خاصة وأن أعضاء الفرقة وصناع الألبوم أنفسهم عبروا عن ثقافات موسيقية مختلفة صبّت كلها في هذا العمل. على سبيل المثال يميل فتحي سلامة إلى الموسيقى الكلاسيكية وبناء الهارموني، بينما يحيى خليل متحمس لإيقاعات الجاز، ويتملك عزيز الناصر خلفية موسيقية لاتينية، ثم هناك أحمد منيب الملحن المتشبع بالإيقاعات النوبية، وعبد الرحيم منصور الشاعر المصري اليساري، وفؤاد حداد أحد عمالقة شعر العامية، ومجدي نجيب الشاعر والفنان التشكيلي صاحب الرؤية الفلسفية تجاه الفن والحياة، بينما منير -الذي لقبوه وقتها بالـ "الرمَّاح" نسبة إلى الفرس الجامح- شاب نوبي متمرد على واقع الأغنية المصرية.
كلمات جديدة
على مستوى الكلمة قدم الألبوم موضوعات اجتماعية وإنسانية متعددة القراءات، بداية من أغنية "الليلة ياسمرا" التي كتبها فؤاد حداد وغناها محمد حمام في المعتقل، ثم أعاد يحيى خليل قراءتها بصورة أخرى بعد سنوات ورأى أن اختيار ثلاثة كوبليهات منها فقط سيجعلها أغنية مناسبة للتعبير عن بهجة المصريين باستعادة "طابا" عام 1981 (عام صدور الألبوم).
أغنية "شبابيك" التي كتبها مجدي نجيب في المعتقل تسمعها للوهلة الأولى فتظنها أغنية عاطفية، لكنها تحمل معاني أكثر عمقًا حول علاقة الكاتب بالوطن. وحتى "شجر اللمون" التي كتبها عبد الرحيم منصور تم تأويلها بتفسيرات سياسية واجتماعية متعددة مابين الاحساس بالاغتراب الداخلي والإحباط العام أو ربما اليأس من واقع الوطن العربي. أما أغنية "ع المدينة" فكانت إشارة واضحة لواقع محمد منير نفسه وكل أبناء الأقاليم القادمين للقاهرة وهم يواجهون صدمات الحياة في المدينة المزدحمة بقوانينها وإيقاعها المُنهك: "القلق جوه العيون/ وشها له ألف لون/ حزنها غير حزننا/ منها واحنا لوحدنا".
حالة الاغتراب التي شكلت ملمحًا من ملامح الألبوم، لم تكن الفكرة الاجتماعية الوحيدة المطروحة في أغنياته، فهناك أيضًا أغنيات تناولت واقع الحياة بصورة فلسفية مثل أغنية "يا زماني" التي كتبها مجدي نجيب في صورة خطاب متبادل بينه وبين الزمان. وحتى في أغنية "أشكي لمين" التي لحنها بليغ حمدي كان الاختيار لموضوع فلسفي يشكو فيه الشاعر عبد الرحيم منصور من الدنيا وألاعيبها ويتقبلها بروح ساخرة وهو يقول "دنيا بتلعب بينا ليه/ إيه راح ناخد منها ايه؟".
الصعود إلى العالمية على عتبات السلم الخماسي
المدهش في تجربة "شبابيك" أنها عمل احترافي شديد الإتقان، صُمم ونُفذ بروح الهواية، بداية من بروفات الأغاني التي أدتها الفرقة لمدة عام كامل في كنيسة بميدان الإسماعيلية، وصولًا إلى استخدام تقنيات حديثة في هندسة الصوت، مثل التسجيل بنظام "التراكات" مع طارق الكاشف، بل وتسجيل صوت منير نفسه على تراكين لينتج صوتًا ثنائيًا تم توظيفه موسيقيًا خلال التوزيع .
ضم الألبوم ثمان قطع غنائية شكلت تحفة موسيقية مزجت بدهشة بين الإيقاعات النوبية التي كانت صُلب المشروع، والأشكال الموسيقية الحديثة مثل الروك، و الفانك، والصول، والجاز، بجانب المقسوم المصري المطعم بالزخارف الموسيقية الإلكترونية.
أغنيات مثل "الليلة يا سمرا"، و"شبابيك"، و"شجر اللمون" و"ع المدينة" و"الكون كله بيدور" إذا عُزفت على الدف النوبي فقط ستجدها أغنيات نوبية خالصة. أغنية "شبابيك" ينتقل فيها الملحن بين العجم والكرد داخل قالب السلم الخماسي، ويمنحها فتحي سلامة مسحة أوركسترالية حين يفتتحها بفاصل من الوتريات.
اسمع "شجر اللمون" بروح الصول، و"ع المدينة" بروح الفانك، وانتبه إلى السوفت روك في "يا زماني". في "الكون كله بيدور" لحن فولكلوري واضح، وإيقاع نوبي إفريقي، لكن توزيع يحي خليل حولها إلى فيوجن يمزج عدة ثقافات في مقطوعة واحدة يتصاعد فيها الإيقاع والهارموني ومنير يشدو: "إحنا بكره لينا".
لم يكن "شبابيك" مجرد ألبوم رائع؛ بكلمات تتجاوز المعاني المستهلكة وموسيقى مدهشة إيقاعًا ولحنًا وتوزيعًا. الحق أنه كان نقطة تحول حقيقية في المشهد الموسيقي المصري في عصر ما بعد الطرب وما قبل البوب، وأن أثره امتد إلى أبرز المطربين الذين أشعلوا الساحة الغنائية في الثمانينيات والتسعينيات، سواء اعترفوا بذلك أو أنكروا. وعلى حد تعبير صديقي الموزع الموسيقي طارق مدكور يمكننا ابتكار تقويم خاص بالأغنية المصرية الحديثة، فنقول "ق. ش" (قبل "شبابيك") و"ب. ش" (بعد "شبابيك").