لم يكن بليغ حمدي مجرد اسم غزير الإنتاج في تاريخ الأغنية العربية، بل عقلًا موسيقيًا غيّر في شكلها وموازينها. في وقتٍ كانت الألحان تميل إلى الكلاسيكية الثقيلة، دخل بليغ بخفة وذكاء، فربط الإحساس الشعبي بالذائقة الحديثة، وقدّم موسيقى تعبّر عن الناس من دون أن تفقد طربها أو أصالتها. تعامل مع أهم الأصوات العربية من أم كلثوم وعبد الحليم إلى شادية ووردة وصباح، وصنع معهم لحظات أصبحت جزءًا من الذاكرة الجماعية للغناء العربي.
في ذكرى ميلاده، نستعيد 11 لحنًا من أجمل ما قدّم عبر مسيرته. أغانٍ ما زالت تعيش في كل جيل، لأنها تجمع بين العاطفة، والبساطة، والدقّة في الصياغة الموسيقية. من "بعيد عنك" إلى "طاير يا هوا" و"يا حبيبتي يا مصر"، نعود إلى أعمالٍ تُظهر كيف استطاع بليغ أن يجعل كل صوت يحكي بطريقته، وأن يترك في كل لحن توقيعه الخاص.
وردة - حنين
أخجل أحيانًا من هذا الاعتراف، لكني تعرفت على أغنية "حنين" للمرة الأولى عن طريق شيرين عبد الوهاب. غنتها في أحد حلقات برنامج "صولا" الذي كانت أصالة تستضيفه، وغنت مقطعها الافتتاحي دون مرافقة موسيقية، وهي في غاية التأثر. ثم اختتمت الأداء بقولها: "بليغ يا عمي.. بليغ!".
بين صوت شيرين وصوت وردة ارتفعت مكانة الأغنية في قلبي، فتربعت بين أجمل الأغاني التي سمعتها في حياتي لامرأة تغني عن الحب الذي لا يعرف الأنانية أو الغرور. كيف لا وقد كتبها عبد الوهاب محمد، بفرط حساسيته لمشاعر الصدق في الحب، أما وردة فمنحتها الصدق في الأداء، وهي تجسد معانيها بصوتها حين تغني: "شايلاك فى نِنْ عيني/ واللى بينك وبيني / أشواق كل الأحبّة / وحنين المحرومين". *من اختيارات هلا مصطفى
https://youtu.be/74_DNNUbRQU?si=-laDW7GxoNstJkO8
وردة - روح قله يا قمر
منذ اللحظات الأولى لهذه الأغنية تدخل وردة بأداء انفعالي عالٍ، وكأنها اكتشفت للتو معاني القسوة والجفاء في هذه الدنيا، فتغني باستغراب، مطالبة القمر أن يستعلم لها أحوال الحبيب وينقل إليه الرسائل. كتب سيد مرسي لوردة العديد من الأغاني، مثل "وحشتوني" و"ليالينا"، فألبسها ثوبًا من البراءة والرقة، سواء في الفرح أو في الحزن. جعلها تتأمل العالم من حولها، وعلاقات الناس ببعضهم، فتتسائل وتستنكر وتغضب: "غريبة و مش غريبة/ دنيا وفيها العجايب".
قبل سنوات، تبدّلت ذكرى هذه الأغنية في وجداني، حين توجهت شيرين عبد الوهاب لزيارة فضل شاكر المتواري عن الأنظار في مخيم عين الحلوة في جنوب لبنان، في فترة شديدة الحساسية كان مختفيًا فيها كليًا عن الظهور الإعلامي أو الغناء أو التواصل مع الجمهور. خرج من تلك الزيارة عدة مقاطع فيديو وهما يغنيان سويًا. لكن أبرزها بالنسبة لي كان مشهد فضل وهو يعزف على كيبورد صغير، ويدندن وحده رائعة بليغ هذه، بصوت بغاية الرقة، يسهل القول أنه تجاوز رقة صوت وردة في التسجيل الأصلي. تسمعه شيرين وهي تضرب على وجهها من مدى التأثر والسلطنة وتقول "في روقان كده في الدنيا؟"، فيما فضل إلى جانبها يردد: "غريبة و مش غريبة/ دنيا وفيها العجايب". *من اختيارات هلا مصطفى
أم كلثوم - بعيد عنك
كتب مأمون الشناوي أغنية "بعيد عنك"، ولحّنها بليغ حمدي قبل أن يعرضها على أم كلثوم، التي أعجبت بها على الفور وقررت غنائها كما هي دون أي تعديل. مثّلت الأغنية نقطة تحول في مسيرة بليغ، إذ قدّم من خلالها ثورة لحنية عبر انتقاله السلس بين مقامات البياتي والسيكاه وراحة الأرواح، ما منح العمل طابعًا دراميًا متجدّدًا في كل مقطع.
فتحت هذه البنية المقامية المرنة المجال للحظة استثنائية خلال أحد حفلات أم كلثوم، حين ارتجل عازف الناي سيد سالم جملة موسيقية خارجة عن النص، لتتحول إلى واحدة من أجمل الصولوهات التي وُلدت من قلب الارتجال. *من اختيارات نور عز الدين
جانا الهوى - عبدالحليم حافظ
التقى بليغ حمدي بالعازف الشاب سمير سرور، الذي لفت انتباهه بمهارته وبفكرته الجريئة في تعديل آلة الساكسفون لتصبح قادرة على عزف أرباع الصوت الشرقي. أدرك بليغ على الفور أن هذا الصوت يمكن أن يفتح أفقًا جديدًا في الأغنية العربية، فقرّر أن يقدمه لعبد الحليم حافظ.
جاءت النتيجة بأغنية "جانا الهوى" واحدة من أكثر ألحان بليغ أناقة وتجريبًا على مقام البياتي. ومنذ أن عزف سرور صولو الساكسفون الشهير أمام حليم للمرة الأولى، صار الصوت الذي يفتتح الأغنية رمزًا لا يُفصل عنها، وعلامة فارقة في تاريخ الموسيقى الطربية. *من اختيارات نور عز الدين
عبد الحليم حافظ - التوبة
رغم كثرة الأعمال التي جمعت بين بليغ حمدي وعبد الحليم حافظ تبقى أغنية "التوبة" واحدة من أجمل التعاونات التي اكتملت بكلمات الشاعر عبد الرحمن الأبنودي، ففي هذه الأغنية لم يكن حليم وحده من يروي وجعه بل كان بليغ شريكًا في البوح. منح الكلمات لحنًا يتألم مثلها ويتنفس معها، منذ اللحظات الأولى تمهد الآلات النفخية والوترية مع إيقاعات طبول البونجو لأجواء درامية كثيفة كأنها تستعد لاستقبال اعتراف مؤلم. يدخل صوت العندليب على مهل محمّلًا بالهموم تتبعها الفواصل الموسيقية الوترية لتؤكد شعور الخذلان والانكسار.
"متغرب والليالي يا بويا، مش سايباني في حالي يا عين / والرمش اللي محرجني يا بويا ضيعني وأنا كان مالي يا عين" في هذه اللحظة يتصاعد الإحساس ليرد عليه بعدها الكورال ويصبح صدى حزينًا لحالة لا مهرب منها، وكأنه يردد أحزان جيل كامل وليس مجرد شخص. تتضح ملامح المأساة حين يبلغ اللحن ذروته في نهاية الأغنية مع لازمة "ترميني المقادير" حيث يصرخ حليم صرخته الأخيرة وكأنها اعتراف مؤجل أو ختام لنوبة بكاء طويلة.
قوة الأغنية بجميع عناصرها دفعت فرقة جدل إلى إعادة تقديمها ضمن ألبومهم الأول Arabic Rocks عام 2009، لكن بروح الروك في تجربة جريئة حافظت على روح بليغ اللحنية مع إعادة صياغة موسيقية تناسب روح العصر دون أن تُفرط في عمق الأصل. *من اختيارات نورهان أبو زيد
شادية - يا حببتي يا مصر
من بين العديد من الأغنيات الوطنية التي لحنها بليغ حمدي لكبار المطربين، تبقى "يا حبيبتي يا مصر" بصوت شادية عملًا استثنائيًا لا يشيخ ومن أجمل ما قُدم في حب الوطن. لعل السر في خلود هذه الأغنية يكمن في الصدق المطلق الذي وضعه كل من شارك في صنعها، من كلمات محمد حمزة النابعة من قلب الشارع المصري إلى لحن بليغ الذي يمس الروح وصولًا إلى أداء شادية الذي لا يُشبه سواها.
لطالما ارتبطت الأغنية وجدانيًا بذكرى نصر أكتوبر-رغم أنها صدرت أول مرة عام 1970 في فترة ما بعد النكسة وقبل نصر أكتوبر 1973- لكنها كانت لعقود الأغنية الرسمية في احتفالات التلفزيون المصري بهذه المناسبة. أداء شادية يفيض بحب حقيقي ونبرة صوتها تحمل دفء الانتماء وصدق العاشق حين يُنشد لحبيبته الأولى.
الكلمات ترسم لوحات متفرقة من ملامح مصر بينما جاء لحن بليغ بسيطًا في تركيبه لكنه عبقري في أثره كأنه يوقظ الحنين في كل من يستمع إليه. ربما لهذا السبب جذبت الأغنية أجيالًا من المطربين ليعيدوا تقديمها، منهم أنغام وشيرين عبد الوهاب، وحتى أحلام التي غنتها في حفل إطلاق ألبومها "يلازمني خيالك" في القاهرة عام 2016. *من اختيارات نورهان أبو زيد
محمد رشدي - طاير يا هوا
من بين ألحان بليغ حمدي التي تستوقفني في كل مرة، تظل أغنية "طاير يا هوا" واحدة من أحب أعماله إلى قلبي. كتبها الشاعر محمد حمزة وغناها محمد رشدي ضمن فيلم "فرقة المرح" لتصبح فيما بعد من الكلاسيكيات التي لم تقتصر على جيلها، بل أعاد تقديمها فنانون من مدارس مختلفة مثل فضل شاكر وماجد المهندس في محاولات لملامسة ذلك السحر الذي غلفها منذ ولادتها.
منذ اللحظة الأولى يأخذك اللحن بإيقاعه الراقص والمبهج إلى أجواء مفعمة بالحياة، قبل أن يبدأ الكورال الغنائي وكأنه يمهد لبوح رشدي الذي يخاطب النسيم والبحر عن مشاعره. إنها أغنية عاطفية بامتياز لكنها ليست حزينة بل بها سحر لا يجيده سوى بليغ، صاحب القدرة الفريدة على تطويع الجمل اللحنية لتخدم المشهد الوجداني وتمنحه بعدًا إنسانيًا عميقًا. *من اختيارات نورهان أبو زيد
أم كلثوم - ألف ليلة وليلة
تلاعب بليغ ببراعة بلحن الأغنية خالقًا مزاجات مختلفة داخل اللحن الأساسي لها، مستلهمًا في ذلك من عنوان الأغنية المقتبس من أحد أهم الأعمال الأدبية عبر التاريخ "ألف ليلة وليلة". تضمنت الطبقة الأولى مزجًا بين الكمان والرق، ثم صولو كمانجات طعمه بـ رِفات الجيتار الإلكتروني(Guitar Riffs)، ثم تلاه بوصلة من عزف الأكورديون مع الكولة. ومع كوبليه "يا حبيبي، يا حبيبي إيه أجمل من الليل واثنين زينا عاشقين" انطلق ليضيف المزيد من الجمل اللحنية المتأثرة بالموسيقى الشعبية. جعل هذا الخليط اللحن وكأنه يعبر عن قصص مختلفة بالموسيقى، يسردها واحدة تلو الأخرى في ثيمة واحدة تغازل فيها ثومة حبيبها. *من اختيارات يوسف علي
أحمد عدوية - بنج
من التعاونات القليلة بين بليغ وملك الكاسيت والغنوة الشعبية عدوية، والتي ترك فيها بصمته في التوزيع الموسيقي. كانت ذروة التحدي تتعلق بصعوبة المساس بالتركيبة الموسيقية لأغاني عدوية الشعبية، وقد واجهها بليغ بطغيان واضح للآلات الكلاسيكية مثل الكمان على حساب الأكورديون الذي يحضر في خلفية اللحن وكأنه ينظم حركة الآلات، كما أنه جعل اللحن على مستوى واحد دون انتقالات كبيرة في الكوبليهات لتأتي النتيجة النهائية شديدة البساطة. ظهرت الأغنية لاحقًا ضمن العديد من الأفلام الواقعية المهمة مثل "ضربة شمس" للمخرج محمد خان و"عفاريت الأسفلت" لأسامة فوزي. *من اختيارات يوسف علي
صباح - يانا يانا
تُعتبر أغنية "يانا يانا" واحدة من أيقونات صباح وأبرز تعاوناتها مع الملحن بليغ حمدي والشاعر مرسي جميل عزيز. قُدِّمت لأول مرة في أواخر الستينيات، وظهرت بصورتها الأشهر في فيلم "كانت أيام" عام 1970، حيث اكتسبت بعدًا سينمائيًا رسّخ حضورها في الذاكرة.
اللحن الذي صاغه بليغ حمدي يتميز ببساطته الظاهرية وعمقه الفني؛ جمل قصيرة تتكرر لكنها تتجدّد بفضل التلوين الإيقاعي، ما جعلها قريبة من الجمهور وسهلة الحفظ، وفي الوقت ذاته مشغولة بعناية موسيقية عالية. ينتمي اللحن إلى مقام الرست، وهو اختيار يمنح الأغنية مذاقًا شرقيًا كلاسيكيًا وطربيًا رغم خفته إيقاعيًا، وينسجم مع طبيعة صوت صباح الطربي ومع الدلع والرقة بشخصيتها. *من اختيارات عمر بقبوق
عزيزة جلال - مستنياك
تكمن جمالية لحن أغنية "مستنياك" في قدرته على الجمع بين الرصانة الطربية والحميمية العاطفية. بليغ حمدي، بخبرته في تطويع المقامات الشرقية، صاغ لحنًا على مقام الرست لكنه أضاف إليه إيقاعات وتلوينات لحنية تجعل المستمع في حال من الترقب المستمر. الأغنية تتحرك مثل موجة: جملة لحنية هادئة، تتصاعد ببطء، ثم تعود إلى قرارها، في محاكاة دقيقة لفعل الانتظار ذاته. وصوت عزيزة جلال كان الأداة الأمثل لنقل هذا المزاج: بأداء بعيد عن المبالغة، لكنه مشحون بالصدق والدفء؛ لتكون "مستنياك" أيقونة حية يعجز عن يتجاوزها الزمن. *من اختيارات عمر بقبوق