في عيد ميلاده، نستعيد صلاح جاهين لا بوصفه شاعرًا فقط، بل كصوتٍ شكّل وجدان أجيال كاملة، وترك أثره حاضرًا في الأغنية والسينما والمسرح والذاكرة الشعبية. من البهجة الخالصة إلى التأمل الفلسفي، كتب جاهين كلمات بسيطة في ظاهرها، عميقة في أثرها، عاشت أطول من زمنها وانتقلت بسلاسة بين الأجيال.
في هذا الاختيار، نعود إلى سبع أغنيات خالدة تحمل توقيعه، وتكشف وجوهًا مختلفة من عالمه الإنساني والفني.
الدنيا ربيع
كان صلاح جاهين معروفًا بعلاقته الوثيقة مع السندريلا سعاد حسني وهي علاقة أثمرت عن عدد كبير من الأغنيات التي كتبها وغنتها سعاد في أفلامها وأعمالها الدرامية، لتصبح جزءًا أصيلًا من وجداننا الجمعي. وبين كل هذه الأعمال، تظل أغنية "الدنيا ربيع" الأكثر رسوخًا في الذاكرة، بوصفها أيقونة للاحتفال بدفء الطقس وقدوم فصل الربيع وتفتح الأزهار.
قدمتها سعاد حسني بأداء عبقري مرح مفعم بالبهجة وخفة الظل ضمن أحداث فيلم "أميرة حبي أنا" ولحنها كمال الطويل. ورغم اعتماد الأغنية على مصطلحات عامية مصرية دارجة في زمنها مثل: "ومفيناش كاني ومفيناش ماني / كاني ماني إيه الدنيا ربيعة فإنها نجحت في تجاوز لحظتها الزمنية لتعيش منذ صدور الفيلم في منتصف السبعينيات وحتى اليوم وتنتقل بسلاسة بين أجيال متعاقبة دون أن تفقد سحرها أو طاقتها * من اختيارات نورهان أبوزيد
سيد مكاوي - الليلة الكبيرة
لا يوجد عمل فني شعبي يضاهي أوبريت "الليلة الكبيرة" في قدرته على التعبير عن ثقافة الموالد العريقة في مصر. ينطلق صلاح جاهين من مفهوم الليلة الختامية، بوصفها ذروة المولد، بما تحمله من حلقات ذكر، وحضور للمنشدين، وأنشطة ترفيهية متعددة، ليصوغ منها بورتريهًا واسعًا يضم فئات مجتمعية مختلفة جاءت من شتى بقاع مصر، من الريف إلى الصعيد وصولًا إلى المدينة.
يتلاعب جاهين بالإيقاع عبر قصص متتابعة، تتنوع بين الساخر والدرامي والفانتازي، حافلة بحوارات دقيقة التفاصيل، شديدة الواقعية، يضعها في قالب مجازي فني يثري خيال المستمع، حتى وإن لم يشاهد عرض العرائس الذي أخرجه صلاح السقا، أحد روّاد مسرح العرائس، ولحن الأوبريت وغناه سيد مكاوي. من إختيارات يوسف علي
عبد الحليم حافظ - صورة
https://youtu.be/9dRZ-6oXUKo?si=EXS-5JK-kOx0ZH-m
في ظل حالة الاصطفاف الشعبي حول المشاريع القومية المصرية في منتصف الستينيات، اختار صلاح جاهين التعبير عن هذه اللحظة من خلال فعل بسيط ومعبّر: التقاط الصور الجماعية. أن تقف فئات الشعب المختلفة مبتسمة أمام الكاميرا، لتوثّق مرحلة تتبلور فيها فكرة الهدف المشترك، وصياغة مستقبل يُتصوَّر أنه أفضل اجتماعيًا واقتصاديًا.
قد تبدو هذه الدعوة، في بعض مقاطعها، مبالغًا فيها أو إقصائية لأصحاب الرأي المختلف، كما في عبارة: «واللي هيبعد مالميدان عمره ما هيبان في الصورة». لكنها، مع مرور الزمن وتغيّر السياق الاجتماعي بالكامل، تحوّلت إلى وثيقة حيّة لتلك المرحلة التاريخية، تستدعي مشاعر الحنين، خاصةً مع انحيازها الواضح للأفراد العاديين بوصفهم محور التقدّم والازدهار.
كُتبت الأغنية بلغة حميمية لا تلتزم بالجدّية المعتادة للأوبريتات الوطنية، ولا تنشغل بتمجيد الوطن بوصفه كيانًا مجرّدًا، بل تقترب من الناس وتضعهم في قلب الصورة. لحنها كمال الطويل، وأداها عبد الحليم حافظ للمرة الأولى في حفل نادي الضباط بالزمالك ضمن احتفالات 23 يوليو. من إختيارات يوسف علي
إيمان البحر درويش - يا صحبجية
https://youtu.be/HoSuR8coUi8?si=p8qggGWp-LYX4I76
يحتفي جاهين في هذه الأغنية بهواة الموسيقى من العازفين، الذي يجتمعون ليلًا لإحياء السهرات، ثم ينصرفون عائدين لأعمالهم في النهار، فهم وقود جلسات السمر الساهرة التي تُخفف وطأة الأيام الصعبة وتتوج حلاوة الأيام الهادئة الجميلة. ولأنهم "صهبجية" أو "صحبجية"، كتب لهم القالب العاطفي للأغنية مليئًا بالتعبيرات الشعبية التي ركبت بشكل مبتكر وجديد على الأذن، ومستحضر من لغة الشارع مثل "أنا وحبيبي روحين في زكيبة" و"أما العوازل جتها رزية". لحن الأغنية وغناها في العديد من المناسبات سيد مكاوي، كما قُدمت في فيلم الكيت كات الشهير" للمخرج داوود عبد السيد. من إختيارات يوسف علي
أنا هنا - صباح
قدمت صباح في فيلم "العتبة الخضرا" عام 1959 أغنية "أنا هنا" من كلمات صلاح جاهين وألحان سيد مكاوي ضمن عمل سينمائي ناقش قضية النصب والاحتيال في إطار كوميدي خفيف، وفي هذا الفيلم أهدت صباح الجمهور واحدة من أجمل محطاتها الغنائية بالنسبة لي وهي أغنية "أنا هنا يا ابن الحلال"
تكشف كلمات الأغنية عن بساطة صادقة ورضا داخلي، فبطلتها لا تحلم سوى بعيشة هانئة مع شخص تحبه ويبادلها الحب دون تعقيد أو طموحات زائفة. ويأتي صوت صباح محملًا بدلال أنثوي رقيق ومشاعر دافئة تتجلى بوضوح في مقطع: "أنا ورا الشباك / سهرانة بستناك/ علمت قلبي هواك / من قبل ما تجيني واتملاك"
هي أغنية طربية بامتياز، كلماتها عذبة ورقيقة، وجُملها اللحنية لافتة ومتغيرة تجمع بين السلاسة والعمق دون استعراض. أداء صباح هنا كله أنوثة ودلع محسوب، يجعل من الصعب على المستمع ألا يحملها معه طويلًا في ذاكرته، كما تكشف الأغنية وجهًا مختلفًا لصلاح جاهين بعيدًا عن رباعياته الفلسفية التي اشتهر بها، لتؤكد على اتساع موهبته وقدرته على كتابة البساطة بعمق لا يقل تأثيرًا* من اختيارات نورهان أبوزيد
اتكلموا - محمد منير
في ألبوم "يا إسكندرية" الصادر عام 1990، قدم محمد منير تحية خاصة لصلاح جاهين عبر أغنيتين من كلماته، حملتا وجهين مختلفين تمامًا من عالم الشاعر. الأولى هي "المريلة الكحلي" تلك الأغنية الحنونة التي كتبها جاهين بدافع الحب الأبوي لإحدى بناته، بعدما ألهمته رؤيتها بزي المدرسة و"مريلة" الطفولة فجاءت الكلمات مشبعة بالبراءة والدفء والحنين.
أما الأغنية الثانية "اتكلموا" فهي الأكثر فلسفة وعمقًا، وتبدو أقرب إلى بيان شعري يلخص رؤية جاهين للحياة والكلمة معًا. يبدأها منير بصوته منفردًا من دون موسيقى مرددًا: "اتكلموا ما أحلى الكلام / ما ألزمه وما أعظمه" وكأنه يفتح بابًا للتأمل قبل الدخول إلى جوهر الفكرة. هنا نستمع إلى فلسفة جاهين عن الكلمة باعتبارها سلاحه الأول في مواجهة ما لا يرضيه، فيحث الناس على الكلام ويمنح الكلمة وزنها الحقيقي فيما يليه من أبيات: "الكلمة إيد / الكلمة رجل / الكلمة باب / الكلمة نجمة كهربية في الضباب"
صدر الألبوم بعد رحيل صلاح جاهين بنحو 4 سنوات وكان اختيار منير لهذه النصوص تحديدًا أشبه بتحية صادقة من القلب ومحاولة لتخليد كلمات شاعر كبير على صوته، ليبقى جاهين حاضرًا لا كذكرى بل كفكرة حية تتجدد مع كل استماع * من اختيارات نورهان أبوزيد
الرباعيات
كتب صلاح جاهين «الرباعيات»، التي تُعدّ واحدة من أفضل دواوين شعر العامية التي خرجت في القرن الأخير. بدأ نشرها رباعيةً بعد أخرى في مجلة «صباح الخير» عام 1959، وظل يكتبها على فترات طويلة، إلى أن وضع لها سيد مكاوي لحنًا خلّدها في عمل طويل تغنّى به الفنان علي الحجار.
يصعب تذكّر عدد المرات التي استمعتُ فيها إلى «الرباعيات»، لكنني أذكر جيدًا الجلسة التي اصطحبني فيها الفنان علي الحجار إلى منزله، وبعدما انتهينا من الاستماع إلى أغانٍ كان يحضّر لطرحها. سنحت الفرصة حينها لأن أطلب منه غناء بعض الرباعيات بصوته، حتى أكون قد سمعتها منه حيّة، إلى جانب التسجيلات القديمة، وبشكلٍ حصري بعد مرور الزمن. ولم يتغير شعور النشوة بعد كل تلك الاستماعات. يصعب تفضيل رباعية وتحليلها وتجاهل أخرى، فيما تبقى نقطة قوتها الأكبر في حفاظها على مستوى لغوي جعل جاهين يسير على خيطٍ دقيق للغاية بين البساطة والعمق في آنٍ واحد، دون انحدار أو تحذلق.
تعيد «الرباعيات» تأهيل المستمع للتفاعل مرة أخرى مع العالم، بصدرٍ واسع، جاهز لاستقبال الحزن والفرح بخفّة أكبر. *من اختيارات حسام الخولي






