عادت الحاجة نبيلة، المعروفة باسم "بلبل الشرقية"، لتخطف الأضواء مجددًا مع أغنية"هات إيديك ياولا" في تتر مسلسل "ولد وبنت وشايب".
الظهور الأخير لها في برنامج عمرو أديب فتح باب الجدل حولها وحول فكرة تقديم أصوات ريفية بسيطة في أعمال درامية حديثة، خصوصًا بعد تصريحات الملحن محمد يحيى الذي أكد أنه صاحب فكرة الاستعانة بها لأداء اللحن الذي صاغه من روح الفولكلور الريفي المصري.
لكن قصة الحاجة نبيلة أقدم من التريند، وأصدق من شهرة مفاجئة على "تيك توك".
السيدة القادمة من قرية سنهوت بمحافظة الشرقية، لم تتعلم القراءة أو الكتابة، وفقدت زوجها في سن مبكرة، فتكفلت بتربية أبنائها الخمسة. كان الغناء بالنسبة لها مجرد تسلية تمارسها في ليالي الحنة وأفراح الجيران، كما تفعل نساء الريف منذ عقود، قبل أن تتحول مصادفة إلى رمز لروح هذا التراث.
الشهرة عبر "البامية" و "تيك توك"
"هات إيديك ياولا" التي لحنها محمد يحيى، وكتبتها منة عدلي القيعي، ليست التجربة الأولى في مسيرة الحاجة نبيلة، شهرتها جاءت قبل ثلاث سنوات بمقطع غنائي عفوي أمام فرن الخبيز وهي تردد: "مبروحش الغيط دي البامية شوكتني". وهو ارتجال على لحن الأغنية التراثية "مشربش الشاي" التي اشتهرت بها ليلى نظمي في السبعينيات.
ذاع صيتها في أيام قليلة كواحدة من مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي، وظهرت لتحكي قصتها في بعض البرامج التليفزيونية مثل "صاحبة السعادة". ثم قام أحد المنتجين بانتاج الأغنية بشكل احترافي وشاركها ابنها هيثم الغناء، وصورتها فيديو كليب وحقق 13 مليون مشاهدة على موقع يوتيوب.
ببساطة مطلقة، أعادت الحاجة نبيلة للأذهان شكل الغناء النسائي الشعبي، ذلك الغناء الذي يولد من المطبخ والحقل والمندرة (مكان استقبال الضيوف في البيوت الريفية) قبل أن يصل إلى المسرح أو الاستوديو.
لماذا نجحت "هات إيديك ياولا"؟
أداء الحاجة نبيلة في أغنية "هات إيديك ياولا" كشف عن خامة صوت غير مصقولة أكاديميًا، لكنها فطرية وصادقة. خامة تشبه أصوات جمالات شيحة وخضرا محمد خضر اللتان مثّلتا مدرسة الغناء الريفي الأنثوي في النصف الثاني من القرن الماضي.
نجحت "هات إيديك يا ولا" لأسباب عدة، أبرزها أن الشاعرة منة عدلي القيعي كتبت مفردات من روح أغاني التراث الريفي مثل "يا ولا" و"تعالى نجري"، بينما صاغ الملحن محمد يحيى لحنًا ينطلق من مقام البياتي مع إيقاعات مستوحاة من جلسات النساء في القرى حين كُن يضربن الإيقاع على الأدوات المنزلية مثل "الطشت".
جاءت الحاجة نبيلة من ثقافة متختلفة تمامًا عن إيقاع العصر الحالي، أتت من قلب أفراح الريف بقاموسها المختلف، ألقت أمام المستمعين بأغاني محملة بأصالة لا تشبه روح المدينة، ومفردات يفهمها الأجداد وأصحاب الأصول الريفية وكأنها تذكرهم بماضيهم، بينما تلقفها جيل "زد" باعتبارها موضة.
حكمة الحياة الزوجية في أغنية
فتحت الأغنية نافذة على عالم موسيقي ظل طويلًا خارج دائرة الضوء. فأغاني الأعراس الريفية ليست مجرد طقوس ترفيهية، بل نصوص شفاهية تحمل حكمًا وأمثالًا تُتداول جيلًا بعد جيل.
تُلقي دروسًا لتعليم العروس كيف تحافظ على زوجها وبيتها، وتعطي العريس وصايا في التعامل مع عروسه، بل أن بعض هذه الأغاني تتسلل إلى حياتهما الزوجية في غرفة النوم لتناقش أدق تفاصيلها بجرأة!
من هذه الأغاني مثلا "يامنجد علي المرتبة" والتي تقول: "يامنجد علي المرتبة عروستنا حلوة مؤدبة/ عروستنا ناعمة غُريبة/ يامنجد علي المرتبة واعمل حساب الشقلبة".
و كذلك أغنية "أهو جالك أهو" التي تحتفي بكرم العريس وتقول: "أهو جالك أهو / بكرة يأستك الأساتك/ والدهب يملا دراعاتك/ ويعوض كل اللي فاتك/ وأهو جالك أهو".
هذا التراث النسوي الذي ظل مختبئًا في الظل ألهم روادًا من الموسيقيين، من بينهم هاني شنودة مؤسس فرقة "المصريين" الذي التقط مطلع أغنية ريفية تقول "ماتحسبوش يابنات إن الجواز راحة"، ليحولها الشاعر الكبير صلاح جاهين إلى واحدة من أشهر أغاني الفرقة في السبعينيات، بعد أن هذب كلماتها وحولها إلى أغنية اجتماعية لائقة بالعرض العام.
الحاجة نبيلة جاءت من هذا العالم المنسي، من أفراح الطين ورائحة الحقول، تحمل في صوتها أثر الزمن وأصالة القرية. ربما لا تملك تقنيات الغناء الحديث، لكنها تملك الوجدان الذي افتقدته الموسيقى السائدة. وفي زمن تسوده المؤثرات الصوتية، تبدو "بحة" صوتها الصادقة كأنها تذكير بأن الفن الحقيقي يولد من الحياة نفسها قبل الاستوديو.






