لم يعد ديستانكت إلى كازابلانكا ليُطلق ألبومه في مسقط رأسه فحسب، بل كان يُريد أن يستنشق هواء موطنه الذي لم ينسه.
النجم الشاب كبر وترعرع في بلجيكا، لكنه بقي مرتبطًا بعمق بجذوره في البلاد التي لم يعرفها صغيرًا. أما بعد أن دخل عالم الموسيقى، جاءت هويته الفنية شبيهة بمسقط رأسه. في كازابلانكا مزيج فريد من الأصالة والحداثة، فهي في جوهرها فسيفساء حية من الثقافات التي تراكمت طبقة فوق طبقة على مدى قرون طويلة، لتضم في نسيجها جوانب فرنسية وعربية، وأمازيغية وأندلسية. ويمكن للزائر أن يستشعر هذا التناغم العميق في معمارها، ومذاق أطعمتها، وطبائع حديث أهلها.
هكذا كان ألبوم ديستانكت الجديد BABABA WORLD أكثر من مجرد إصدار فني أطلقه، بل جاء بمثابة خريطة يرسم فيها إبداعاته الفنية، وحكاية يروي فيها تنقّله بين المغرب وبلجيكا.
عالم ديستانكت في ألبوم
يتألف الألبوم من 19 أغنية تُسرد كل منها فصول رحلته، ويُبرز فيه قدرته على الغناء باللهجة المغربية والفرنسية والعربية والإنجليزية إلى جانب إتقانه للغة الإيقاع التي تُعد جوهر فنه. ويضم الألبوم تعاونات مع شخصيات فنية عالمية مثل جاي بالفين، وفرنس مونتانا، ومحمد رمضان، وفوزية وغيرهم، إذ يُقدم لنا تجربة موسيقية ومزيجًا ثقافيًا ثريًا ومتعدد الألوان. ومع ذلك، يبقى الألبوم، في صميمه، عملاً مغربياً أصيلاً يعكس هويته بكل وضوح.
لا يمكن حصرُ موسيقى ديستانكت في قالبٍ محددٍ، حيث إنها تتجاوز الأطر التقليدية وترفض أن تُقيّد ضمن تصنيفات معينة. تجسد مزيجًا فريدًا، تندمج فيه الإيقاعات الخليجية في نسيج متنوع من الألحان، وتتفاعل الأجواء اللاتينية الدافئة مع الهدوء المميز لموسيقى الأفروبوب. يمكنك أن تسمعه في مرة يُغني على إيقاع المقسوم مع محمد رمضان ودوراتا دورا في أغنية Astika، وفي مرة أخرى، يُقدم المتعاون معه جيمس فقراته باللغة الفرنسية في أغنية Spider. وبعد ذلك، في أغنية Comu Tu، نُصغي إلى مشاركة جاي بالفين باللغة الإسبانية، وكل ذلك يتم بانسيابية لا تُخل بالإيقاع أو التناغم. هذه المرونة والتنوع في أسلوبه هي التي تجعله بمثابة مرآة صادقة تعكس واقع جيل يعيش تجربة الشتات، وفي الوقت ذاته، يُقدم لهم منارة تُضيء طريقهم في التفاعل مع الثقافة العالمية بأبعادها المتعددة.
يتميّز ألبوم BABABA WORLD بزخم مشاركة الفنانين فيه، وجودة إنتاجه، ولكن ما يمنحه قيمته الحقيقية النسيج العاطفي الغني، وخيط الامتنان المتجلي بوضوح في كل أغنية. لا يؤلف ديستانكت موسيقاه ليتأسف على ما فاته. هو يؤلفها احتفالاً بكل ما يمكن إنجازه في الحياة. وحتى عندما يُوجه إليه سؤال حول ما إذا كان يعاني من صراع في تحديد هويته، فإن إجابته لا تأتي مُحمّلة بالاضطراب أو التناقض، بل بوضوح تام وشفافية: "أنا كل ذلك. أنا كيان واحد لا يتجزأ."
فنٌ يزور أهله
تجلت هذه الشفافية الفنية والذاتية التي يتحدث عنها "ديستانكت" بشكل واضح في موروكو مول بمدينة كازابلانكا. هناك، أهدى الفنان معجبيه حفلاً موسيقياً مجانياً، ليس فقط احتفالاً بإطلاق ألبومه الجديد، بل أيضاً في سياق حدث تاريخي له: كانت هذه هي المرة الأولى التي يؤدي فيها ألبوم BABABA WORLD كاملاً، كما أنه يُسجل كأول عرض رئيسي له في المدينة باسمه الحالي.
ورغم أن ديستانكت قد شارك في مهرجانات مغربية عديدة من قبل، إلا أن هذا الحفل حمل طابعاً مختلفاً تماماً: لقد كان عرضاً تُوج فيه اسمه في الصدارة، وتمركزت فيه رؤيته الفنية في قلب الحدث، واحتضنه جمهور كبير يتجاوز 4000 شخص تجمعوا ليشهدوا هذا التتويج الفني.
الحفل كان أيضًا المحطة الأولى في جولته الفنية المرتقبة، التي سيجوب فيها أوروبا وأمريكا الشمالية، لكنها بدأت تحديداً في المغرب. وقد صرح ديستانكت عن ألبومه قائلاً: "هو عالم تستطيع فيه أن تكون نفسك"، بينما كان صدى أصوات الجماهير يتردد مردّدًا كلماته بدقة، محوّلين المول إلى كورال جماهيري أو فرقة موسيقية. ولم يكن هذا الحفل مجرد عرض، بل كان رجوعًا حافلًا، واحتفالًا تنبض فيه نبضات الحنين.
العاطفة وسط الإيقاعات
ومع ذلك، إذا تعمقت في الاستماع، ستجد أن هناك "شقوقاً" خفية تظهر بوضوح. عبارات مثل "هي لا تحبني، هي فقط تُعجب بنمط حياتي"، تتسلل من بين الأسطر الموسيقية بانسيابية، تماماً كأشعة الشمس التي تتسلل عبر النوافذ التي أصابها الكسر، لتُشير إلى وجود ثقل عاطفي عميق يكمن وراء الإيقاع المبهج.
في هذه الموسيقى، يتواجد الفرح والبهجة، نعم، ولكن هناك أيضاً ألم خفي. هناك نوع من الوحدة لا يمكن للشهرة الواسعة أن تُخفيه أو تُطفئه. إنه شعور بأن المرء، أحياناً، كلما ارتقى في سُلّم النجاح، أصبح من الأصعب عليه أن يُدرك من يراه حقاً لذاته – ومن ينجذب إليه فقط بسبب البريق والنجاح الظاهر. هذا الجانب من التجربة الإنسانية نسمعه أيضاً بوضوح في إحدى الأغاني المنفردة من الألبوم، التي قدمها بالتعاون مع فرنش مونتانا، حيث يُردد بكل صراحة: "مال أكثر، مشاكل أكثر، يا حبيبي."
عندما صعد على المسرح في كازابلانكا، لم يكن الأمر مجرد حفل موسيقي، بل بدا كأنه عودة إلى أحضان معجبيه، بل وإلى مدينته ومسقط رأسه، كأنها رسالة حب مكتوبة في لحظات من روعة سماء الليل. إنها تجسد ذلك النوع من اللحظات النادرة التي لا يحتاج فيها الشعور العميق بالانتماء إلى أي إعلان صريح أو تصريح رسمي. إنه ببساطة يُحس به في الوجدان، ويتغلغل في كل تفاصيل المكان والزمان.
تمثل المغرب العمود الفقري لألبوم BABABA WORLD، لكن الألبوم، في ذات الوقت، يُظهر بوضوح أن الموسيقى – شأنها شأن الهوية– ليست كياناً ثابتاً لا يتغير. بل إنها من الأمور المحسوسة، التي لا تظلّ ثابتة بل إنها تتفاعل باستمرار، وتتغير مع الزمن، وفيما يتعلق بتجربة ديستانكت الفنية، فإن موسيقاه لا تكتفي بالتطور، بل إنها تتراقص مع الحياة، عابرةً بذلك الحدود الجغرافية، ومتجاوزةً لأنواع الموسيقى التقليدية، ومتنقلةً بسلاسة عبر اللغات المتعددة. قد لا يُقدم عالمه الموسيقي حلاً شافياً للفوضى التي تعصف بعالمنا الواقعي، لكنه يُقدم بلا شك نوعاً من السكينة والراحة العميقة، وإيقاع تتنفس على أنغامه، وفرقة ترحب بك، بغض النظر عن موطنك.
في النهاية، لعل BABABA WORLD ليس إلا مرآة لروحك، والملاذ الذي تتحرر فيه من قيد الاختيار، حيث لا يُطلب منك أن تختار أي جزء من كيانك يعبر عنك، بل تأتي بكل ما أنت عليه. تُبدي نفسك بلا قناع. وهناك، تُلقي الموسيقى عليك سحرها.