هناك عدد كبير من الأصوات الحاضرة في الحفلات من المحيط للخليج، رغم عدم تواجدهم على قمة قوائم الاستماع. حفلاتهم تُجدد شباب مسيرتهم دائمًا مقارنة ببعض الأصوات التي تتربع على قوائم الاستماع وتُحقق نجاحًا رقميًا دون الاهتمام بالحضور الحَي الذي يعكس قيمة الفنان، ويؤكد شعبيته كما هو الحال مع نجوم مثل : كاظم الساهر، أنغام، فايا يونان، نجوى كرم، صابر الرباعي، أصالة، وغيرهم. سؤالنا هو ما السر وراء حضور هؤلاء النجوم في الحفلات واستمراريتهم على المسرح؟
الالتزام والمرونة.. مفتاح السوق
على سبيل المثال في هذا الصيف واجهت أنغام أزمة صحية أبعدتها مؤقتًا عن المسرح، لم يجعلها ذلك تتراجع عن التزاماتها؛ أحيت حفلاً في مهرجان العلمين قبل 48 ساعة فقط من سفرها للعلاج في ألمانيا. بمجرد تعافيها، عادت فورًا إلى قاعة "ألبرت هول" بلندن، ثم في موسم الرياض. هذا الإصرار هو ما جعلها تحافظ على مكانتها في قلوب الجمهور. ربما هو أيضًا الذي جعلنا نشاهد لافتة "كامل العدد" قبل بدء كل حفلة.
إلى جانب الالتزام بالمواعيد الذي يبني ثقة المنظمين والرعاة، ويصنع سمعة لا تُقدّر بثمن، لا بد من بعض النجاح المرونة التي تظهر في عوامل أخرى مثل الأجر الذي يتبدّل نتيجة طبيعة الجمهور وشكل الحدث عمومًا. يقدّمون نموذجًا واضحًا لذلك، حيث يختلف أجرهم في حفلات مهرجان الموسيقى العربية الرسمية بمصر عن حفلاتهم التجارية.
الأرشيف هو الوقود
لماذا يدفع الناس مبالغ ضخمة ليقضوا ليلتهم في حفل كاظم الساهر؟ ببساطة لأن وراء الميكروفون تاريخًا دسمًا. رصيد من الأغاني الخالدة يجعله قادرًا على الغناء لساعات دون أن يمل الجمهور. نموذج فنان لا يحتاج جديد كل عام ليبقى حاضرًا أو مبهرًا في العيون، فالأغاني العظيمة لا تُقاس بعمرها، بل ببقائها حية على المسرح. ما امتلكت رصيدًا غنائيًا ضخمًا وناجحًا، كلما كان وقودك كافيًا للبقاء فوق خشبة المسرح لسنوات طويلة.
https://youtu.be/5LYpo3VgxAA?si=sJ6xW-4TkANd4ATX
أحمد سعد على سبيل المثال يقدّم نموذجًا واضحًا لذلك، إذ يختلف أجره في حفلات مهرجان الموسيقى العربية الرسمية بمصر عن حفلاتهم التجارية. إدارة ذكية تعرف متى تُصر ومتى تُلين، وتجيد قراءة السوق ومتطلباته.
الصوت قبل الشهرة
في عصر الترند، يُثبت المسرح من يستحق النجومية بحق. كثيرون يصعدون عبر قوائم الاستماع والمشاهدات، لكنهم يتساقطون أمام الميكروفون. الصوت الحقيقي ما زال عملة نادرة، وهو ما يفسر نجاح فايا يونان التي تحجز مكانها في الرياض ودبي رغم غيابها عن سباق "الأكثر استماعًا".
نفس الأمر مع مروان خوري، مي فاروق، ومروة ناجي. أصوات تُغني من القلب، وتعرف كيف تُقدم "السلطنة" التي يبحث عنها الجمهور العربي. أما أصالة وصابر الرباعي، فهما مثالًا للاستمرارية التي تُصنع من الطرب، لا من الخدع الرقمية، حفلاتهما في الخليج العربي، ومهرجان قرطاج بتونس أكبر دليل على ذلك.
هوية الفنان.. العلامة التي لا تُمحى
كل فنان يبحث عن "بصمته" الخاصة. لكن القلّة فقط من يعرفون كيف يحافظون عليها دون تكرار. نجوى كرم فعلت ذلك ببراعة. صوت لبناني خالص، لم تتنازل عن لهجتها، ولم تُجرب لونًا لا يشبهها. نتيجة هذا الإخلاص امتلكت جمهورًا ضخمًا في الشام والعراق والمغرب العربي، وحفلات كاملة العدد في جرش وموازين. هويتها أصبحت ماركتها، وهذه الماركة أصبحت وعدًا للجمهور: "ستسمعون نجوى كما تحبونها".
جيل زد.. المعادلة الجديدة
هل تغيرت الصورة مع الجيل الجديد؟ نعم. تغيرت النظرة والحاجة إلى وجود أرشيف ضخم، على سبيل المثال "الشامي" كان مثالًا واضحًا على ذلك. بدأ من "تيك توك"، صنع موجة اجتاحت السوشيال ميديا، وتحولت إلى جمهور حقيقي في حفلاته بالعالم العربي وأوروبا، وصولاً إلى أستراليا. خمسة أعوام فقط كانت كافية ليصنع نجوميته، بخطة ذكية تربط المنصات بالحفلات.
اسم آخر ينطبق عليه نفس المعادلة: "ديستانكت" البلجيكي ذي الأصول المغربية، فقد كسر الحدود بين الشرق والغرب، واحتل قوائم بيلبورد هوت 100 بأغاني مثل "لا" و "يما" التي تمزج إيقاعات الخليج بالدانس هول في توليفة عابرة للثقافات. حفلاته في أوروبا والمغرب العربي تثبت أن النجاح الرقمي مهم ومؤثر، وتعكس نجاح المعادلة التي فرضها أسماء قليلة في هذا الجيل، وهي : "النجاح الرقمي .. بوابة العبور لنجومية الواقع".
من أنغام إلى الشامي، ومن كاظم إلى ديستانكت، تتكرر الدروس نفسها: الالتزام والمرونة والأرشيف والصوت والهوية والتواصل مع جيل جديد يعيش نصفه في العالم الواقعي ونصفه الآخر على الشاشة. من يعرف كيف يوازن بينهما، لا ينجح في موسم واحد فقط.. بل يصنع مسيرة تفرض اسمه في سوق الحفلات.






