في السنوات الأخيرة، سعى بعض المنتجين في مشهد الهيب هوب المصري إلى التجديد من خلال إدخال جنرات جديدة مثل الجيرسي كلوب والرايج راب، في محاولات للتجديد في صوت المشهد في السنوات الماضية. ورغم الاهتمام بتلك الأنماط الموسيقية، إلا أن هذه الإصدارات لم تلقَ قبولًا واسعًا من المستمع المصري، الذي ظل متمسكًا بموجة سابقة، عبرت بأصالة أكبر عن ثقافته وهويته، تمثلت بموسيقى التراب الشعبي.
وبالفعل، شهدنا في الفترة الماضية إصدارات استوعبت توقعات الجمهور. عاد ويجز -بعد عدة تجارب في جنرات أخرى مثل الرايج راب- ليقدم أحد أفضل تراكات التراب الشعبي في مسيرته مع "الوعد"، ويصعد بها مباشرةً لصدارة قائمة بيلبورد عربية أعلى 50 هيب هوب. ولم يكن مروان موسى بعيدًا عن هذا التحول. ففي ألبومه الأخير "الرجل الذي فقد قلبه"، ركز على تطوير التراب الشعبي، وخاصة في تراك "بص يا كبير".
كانت هذه العودة بمثابة إعلان عن رغبة المنتجين والرابرز في العودة إلى جذورهم وتطوير صوت التراب الشعبي أكثر وأكثر. لكن، كيف ومن أين ولدت هذه الجنرا؟ وكيف اكتسبت هذه الشعبية لدى الجمهور المصري والعربي؟
صعود الموجة
شهد عام 2018 نقطة تحوّل حاسمة في مشهد الهيب هوب المصري. بعد سنوات من التراكمات والتجارب الفردية، بدأ الراب يُعيد تعريف نفسه من خلال موجة جديدة من الرابرز والمنتجين الذين حملوا صوتًا متجذرًا من الشارع. في الوقت نفسه، بدأ التراب، يجد لنفسه مكانًا في المنطقة، لكنه لم يأتِ ليطغى، بل ليتفاعل مع الأشكال الموسيقية المحلية.
رأيناه يتقاطع مع المزود في تونس، ومع الراي في المغرب والجزائر، غير أن هذه التجارب بقيت محدودة الأثر. وحده التراب الشعبي في مصر تمكن من الاستمرار، لأنه لم يأتِ كوافد بل تشكل من الداخل وتطور بأدواته المحلية.
أدوات الانتاج
اختلف إنتاج التراب الشعبي في مصر عن التراب العالمي، ليس فقط من حيث الأدوات التقنية، بل من حيث المرجعيات الموسيقية أيضًا. اعتمد التراب العالمي على بيتات رقمية ثقيلة وسنث بايس عميق، وخطوط هاي هاتس متسارعة لخلق إيقاع متوتر. إلا أن التراب الشعبي جاء ليعيد تركيب هذه العناصر داخل بيئة صوتية محلية، من خلال مزجها بإيقاعات المهرجانات والأنغام الشرقية.
صنع هذا الصوت محليًا وكأنه موسيقى غرفة النوم (Bedroom Music) المناطق الشعبية، ولم يغيّر فقط شكل الإنتاج، بل تمكن من تغيير ذوق المستمعين. ومع الوقت صار الجمهور المصري أكثر تقبّلًا لصوت يعبّر عنه بلغته وبإيقاعه اليومي وهو صوت التراب الشعبي.
لم يكن التهجين الصوتي في التراب الشعبي ممكنًا دون تقاطعات جمالية وتقنية بين منتجي الهيب هوب ومنتجي المهرجانات. نشأ الطرفان في ظروف إنتاج مستقلة خارج الاستوديوهات الرسمية، معتمدين على برامج بسيطة مثل فروتي لوبس استديو.
في وقت انشغل فيه الجميع بتحديد ما هو مهرجانات وما هو هيب هوب، كان الفنانون من الموجتين يدعمون بعضهم البعض بشكل مستمر، مثلما حدث مع ويجز والسادات وعمرو حاحا - الأسماء المؤسسة لجنرا المهرجانات- في تراك "خربان". وقد صرّح ويجز مؤخرًا أن دعم السادات كان له تأثير كبير في مسيرته.
استلهم المنتجون من كلا الجانبين من بعضهم البعض: فأدخل منتجو التراب أصوات الأورغ والإيقاعات السريعة ذات الطابع الشعبي وحلت الطبلة مكان الدرامز، بينما تبنّى بعض منتجي المهرجانات تقنيات ميكسينغ وتوزيع أقرب للتراب.
ظهرت أسماء بارزة مثل مولوتوف، الذي جاء من خلفية إنتاج المهرجانات، إلى جانب ووزة منتصر والوايلي لاحقًا. وغيرهم من المنتجين الذين ساهموا في بناء القواعد الأساسية لهذه الجنرا. وبحلول عامي 2019 و2020، بدأت هذه الجنرا تتبلور وتكتسب هويتها الخاصة، لتصبح جزءً أساسيًا من المشهد المصري.
الأداء الصوتي
لم يكن الأداء الصوتي في التراب الشعبي مجرد امتداد للراب التقليدي، بل شكل جديد من التعبير الصوتي، ناتج عن تزاوج الهيب هوب والموسيقى الشعبية. في البداية، تبنّى بعض الرابرز أداء قريب من النموذج الأمريكي، بخطوط فلو (flow) دقيقة ونطق حادّ ورفض لأي ملامح غنائية داخلية.
لكن مع صعود التراب الشعبي، بدأنا نسمع أداءً أكثر مرونة، يميل أحيانًا إلى الغناء واستخدام المقامات الشرقية بدلًا من السلالم الغربية، مثل ويجز الذي استلهم بصوته في إصدارات مثل "دورك جاي" حيث تقف بين الغناء الشعبي والراب.
أمّا مروان موسى من أوائل الرابرز الذين ساهموا في هذا التحول، حيث عبّر عن ضيقه من الانتقادات التي طالت استخدامه للإيقاعات الشرقية في أغانيه. بالنسبة له، دمج إيقاع المقسوم ليس مجرد إضافة موسيقية عشوائية، بل هو تحدٍ فني يسعى لتطويره بدلًا من الهروب منه.
في مسيرته، سعى موسى لدمج التراب مع الموسيقى الشعبية، ليقدم مزيج موسيقي يعكس الثقافة المصرية الحديثة دون الوقوع في تقليد الأنماط الغربية. رغم الانتقادات التي تعرض لها، واصل موسى العمل على تطوير هذا الصوت المصري الأصيل الذي يعكس هويته الثقافية، مؤكدًا أن هدفه ليس محاكاة الغرب، بل إنشاء صوت "100٪ مصري" قادر على المنافسة عالميًا.
ورغم ما شهدناه من صعود مستمر للتراب الشعبي وتطوراته المتسارعة في السنوات الأخيرة، يبقى هذا الصعود مليء بالتحديات. فبينما يحقق التراب نجاح جماهيري كبير ويكتسب مكانته في مشهد الهيب هوب المصري، يواجه العديد من الأسئلة حول استمراريته وقدرته على التكيف مع المتغيرات الثقافية والاجتماعية.
فهل يستطيع التراب الشعبي أن يبقى صوت الشارع المصري وسط موجات موسيقية جديدة تتداخل وتتشابك؟ وهل سينجح الفنانون في الحفاظ على هويته الخاصة دون أن يفقد طابعه الشعبي الأصيل؟ هذه الأسئلة تظل مفتوحة، وتضع التراب الشعبي في مواجهة مع نفسه ومع جمهوره.