الفنان ساياكس الذي جاء من حومات ليبيا الفقيرة بهوية مجهولة، ولغة شعرية لا تخجل من إغراقها في المشاعر بالعديد من اللحظات. لم يكن يحتاج أكثر من العام ونصف فقط استطاع أن يكون من أبرز الأصوات في المشهد الموسيقي الليبي والمغاربي. ليصبح ظاهرة تستحق التحليل والتأمل، وتساهم في النظر إلى موسيقى أبناء بلده بجدية تامة. أنتج خلال ذلك 3 تراكات فقط قبل أن يلفت النظر له بالمشهد المغاربي، خاصة بعد أن تعدى تراكه الثاني "مريض" حاجز الثلاثين مليون مشاهدة على اليوتيوب.
مشروع ساياكس المبشر
نظرة واسعة على الجيل الجديد من الأصوات الليبية مثل كحله وساياكس وغيرهم نرى ملامح تيار موسيقي يعكس بيئة ثقافية غنية لا زالت لم تكتشف بعد. ربما لذلك أتت سرعة انتشار موسيقى ساياكس من بساطتها؛ كلمات مثل طلقات رصاص تواجه أزمات الاقتصاد بالتبجح العنيف، بل اتجهت للهجة تنتقل بين القسوة والحنين من مقطع لمقطع في كل تراك، مركزة على قصص يستطيع الجميع اعتبار نفسه جزءً منها.
لا يعتمد الإنتاج الموسيقي لتراكات ساياكس على الألحان المركبة، فهو يلجأ بشكل كبير لجنراتي الدريل والتراب بالتناوب بينهما، ولكنه يركز بشكل أكبر على المؤثرات الصوتية وحضورها بكثافة، مثل أصوات الصياح في الخلفية، أو أصوات معدلة بالأوتوتيون للأطفال، أو حتى أصوات مغلظة مغرقة بالتشويشات. كما تحتوي العديد من تراكاته على تطعميات من الموسيقى الشعبية أو الكلاسيكية، مثل عينات العزف السيمفوني للكمانجات، أو قرع الدفوف المستمدة لإيقاعها من الموسيقى الشعبية.
ساياكس يضع سردية الأنين
يختار ساياكس منذ إصداره الأول "صعيب ننساك"، أن يبتعد عن إظهار أي مواطن قوة، وأن يلعب على مناطق الألم الذكورية الحساسة. يصوّر شعور رجل عاجز عن المضي قدمًا في علاقته العاطفية بسبب اكتئابه. ذلك الاكتئاب القائم على أسباب اقتصادية تجعل اليأس يدب في أوصاله بشكل واضح ومفجع.
يتبع ذلك برسم بورتريه عن تدهور الأوضاع في منطقة الحومات الليبية في تراك "مريض". يعتمد هنا على صور ذهنية يرسمها في باراته ببراعة، مثلًا يقول "لفلوس مشات فطاسة وطروف المارلبورو"، أي أن أقصى مقابل مادي يمكن الحصول عليه يكفي لتكاليف القهوة والسجائر المارلبورو التي تستهلك للإتيان بالرزق أصلًا. قبل أن يستطرد في الحديث عن الرغبة المشتركة بينه وبين والده في أن يهاجر من حومته ليحصل على حياة آدمية، لا يحتاج فيها أن يخبىء أمواله مع شخص آخر مثلما يفعل والده الذي يتركها مع أمه.
معادلة ساياكس للنجاة من الألم
أيضًا في تراك "فالطا" يرى ساياكس بوضوح أن الحزن يحاصر الأفكار ويمنعها من الفعل مثل "الشوك في الراس". ولكي تنفذ تلك الأفكار وتصبح واقعًا يأخذ قرارات تحمل طباع الاستغناء والأنانية وأحيانًا الشر. تكون قاسية على قلبه أولًا قبل أن تكون قاسية على غيره.
ومن أجل الإحساس بالأمان يستدعي ساياكس حبه لوالدته: الحب الوحيد غير المشروط في حياته، كنوع من أنواع البحث عن مؤيد أخلاقي ونفسي لقراراته. يظهر ذلك في بارات مثل "شافوني قاسي " و"ولدك ماهواش عاصي".
الخدمة هي الحل
بعد الإغراق في القسوة الشعورية تأتي مرحلة الفِعل. فالنجاح عند ساياكس لا يرتبط بتحقيق الشهرة والإنتشار، بل بالعمل أو كما يسمّيه "الخدمة". يتعامل مع ممارسته للفن مثل أي موظف عامل ينال فرصة الهجرة أو السفر خارج البلاد. لا يهمه التفوق على أخصامه، ولا يوجد في ذهنه مشهد يركز على منافسته.
في فيديو كليب تراك "ليبيكو"، وهي كلمة تجمع بين الهوية الليبية والمكوث في إيطاليا، نرى الرابر المقنع مجسدًا لقصة شاب مكافح استطاع الارتقاء بحياته والعيش في منزل ضخم به رفاهيات عديدة، بعد أن كان يعمل بورشة تصليح سيارات ببلاده.
تنقل الكاميرا ذلك الإحساس جيدًا من خلال البيت الكبير الخالي من أي أثاث. الصورة تترك إشارات هامشية تدل على قسوة الخيارات الشخصية، نشاهد رجل تجرد من طفولته اضطر للعمل بالورشة بينما كان أقرانه من أطفال الحومة يلعبون كرة القدم.
يبدو العمل/ الخدمة وحدها هي الملاذ الذي يتأمله ساياكس في كل مرة، للكتابة والإنتاج وإنتاج وجهة نظر عن العالم عمومًا.
ساياكس في دائرة مغلقة
تتكرر تلك التفصيلة في إصداره التالي "يا حومة". يبدأ بصوت زوجته تقترح على طفلهما الغناء لوالده بينما هو في الغربة، وعلى عكس رفاهية "ليبيكا"، يأتي تراك "يا حومة" بعيني مواطن ليبي عادي تحط قدماه القاهرة، متنقلًا بين معالم وسط المدينة البسيطة من مطاعم ومقاهي ومراكز خدمة.
ورغم أن الفيديو كليب صُور على هامش حفلته الأولى بالقاهرة، إلا أنه لا يضع أي لقطات أو مشاهد منها. ويُغرق التراك ببارات تتحدث عن الغرض من التنقل من مدينة لأخرى وهو جمع الأموال مثل "نموت عليكو تو نرجعلك يا حومة" و"لازم موني" و"بلادنا معطياتنا" و"Ma Family on my Mind".
يتبلور مفهوم الليبي الباحث عن قوته في شتى بقاع الأرض عند تلك النقطة وبعدها مع صدور ألبومه القصير الأول منذ أيام بعنوان "SWS" والمكون من أربع تراكات، والذي يحمل غلافه صورة جواز سفر ليبي. حيث يحكي تراك "عبده" عن السجين الذي يقضي ثلاثه سنوات من الألم والمعاناة ويخرج للحياة خالي الوفاض بينما كان سافر من ليبيا ليبحث عن رزقه. ولدينا تراك "يطير النوم"، والذي تتسائل باراته إن كانت المصائر تتكرر من جيل لجيل، فهل المواطنين العاديين هم المسؤولين عن فشلهم ؟ وهل هم متقاعسين في البحث عن حل جماعي بدلًا من هجر الوطن ؟






