في كل مرة أتواجد فيها في حفل أو حدث مرتبط بمروان بابلو، أسمع أحاديث ونقاشات تدور في الكواليس وبين جمهور الراب المصري حول "سرّ" مروان بابلو. شخصية الرابر الشاب تنطوي على الكثير من الجاذبية. جاذبية غير مفتعلة، بل متأصلة في الكثير من عناصر أسلوبه، على نحو يصعب معه تحديد مصدرها.
أخبرني أحدهم قبل مدة أن السر -برأيه- يكمن في هدوء بابلو، الذي يخلق حوله هالة من الغموض. بقيت الفكرة في رأسي لفترة. قد يلمس أصدقاء بابلو والعاملون في الصناعة الموسيقية هذه الخصلة بسهولة ومباشرة بعد الاختلاط به. فيما تنتقل للجمهور كانطباع عام يتشكل عنه من خلال خيارات مسيرته، فهو على سبيل المثال مقل جدًا في ظهوره الإعلامي والمقابلات التي يقدمها. رغم أن العديد من الرابرز الشباب يحاولون غالبًا استغلال بقعة الضوء هذه حين تتوفر للتواصل مع جمهور، في مشهد إعلامي يهيمن عليه نجوم البوب. لكن بابلو يختار قول ومشاركة أقل ما يمكن.
ثم بدأ منذ نهاية صيف العام 2024، يأخذ خطوات محسوبة ومفاجئة، لا يروج لها طويلًا، ولا يتحدث عنها قبل أو بعد حدوثها، بل تحصل بهدوء تاركة أثرًا عميقًا لاحقًا. ضربات سريعة وموجعة.
حب وكاشات و"كارما"
صدر الألبوم القصير "مشروع الشعاع الأزرق"، معلنًا عبر فيديو كليب "ديجافو" بداية شراكة جدية بينه وبين المخرج أبانوب رمسيس، حيث رأيناه يأخذ قفزة كبيرة نقلته إلى مستوى بصري جديد. حافظ على هذه الشراكة لأشهر تالية، وطورا سويًا 4 فيديوهات للألبوم القصير "انحراف" برؤية وعناصر بصرية موحدة.
كما أصدر دونما أي سابق إنذار في نهاية 2024 ألبومًا قصيرًا مشتركًا بالكامل بينه وبين أبيوسف بعنوان "حب وكاشات"، في واحدة من التجارب المشتركة النادرة في السين المصري. شكل الألبوم مفاجأة لجمهور الاسمين. ورغم أنه حظي بتفاعل هادئ في البداية، سرعان ما بدأت واحدة من أغانيه الخمسة، "كارما"، تراكم أرقام استماعات هائلة، وتحجز مكانة ثابتة ضمن الأغاني الأكثر استماعًا على قائمة بيلبورد عربية أعلى 50 هيب هوب طوال 23 أسبوعًا متتاليًا.
خيار تقديم ألبوم مشترك مع أبيوسف تحديدًا كان ذكيًا ومدروسًا، حتى بدا وكأنه رسالة ضمنية من بابلو لجمهور الراب، أو ربما إعلان عن مرحلة. فرغم أن أبيوسف ميال للعمل الجماعي، وله شراكات موسيقية عميقة في المشهد مع أبو الأنوار وسانتا وللّا فضة، إلا أنه كذلك رابر حاد الطباع، وله تاريخ في البيفات العنيفة. لكن بابلو بدلًا من أن يخوض اشتباكًا فنيًّا معه -قد يثير حماس الجمهور لفترة غير قصيرة- أراد أن ينجز الأمور على طريقته، ويسحب الرابر المخضرم إلى صفّه، ويعلن - دون أن يقول شيئًا- أن الاعتراف بالآخرين عوض نكرانهم، قد يفيد المشهد أكثر.
مشروع ميم
ثم جاءت خطوة ثانية لتؤكد خطة بابلو. أعلن كل من مروان بابلو ومروان موسى عن تقديم حفل مشترك في القاهرة بعنوان "مشروع ميم"، في تجربة نادرة أخرى تتيح للجمهور فرصة حضور اثنين من أكبر أسماء الراب في ليلة واحدة. ودون ترويج مبالغ، شارك بابلو قبل أيام من الحفل عبر حسابه على انستغرام صورًا لمحادثات تبدو عفوية بينه وبين موسى، وهما يتناقشان ويشوِّقان لهوية ضيوف الحفل.
جاء يوم الحفل، وصعد إلى جانب المروانين على المسرح كل من عفروتو وأبيوسف وكريم أسامة، لتتحول الليلة إلى استعراض لأبرز هيتات السين المصري في السنوات الماضية. سمع الجمهور في حفل واحد "كارما" و"غاية" و"البوصلة ضاعت" و"كبده" و"برازيل". احتفى المروانان بالصداقات والنجاحات، وقدم بابلو أبيوسف للصعود على المسرح في لحظة حميمية نزع فيها كل "إيغو" الرابر عنه، واستبدله بالامتنان والتقدير فيما صرخ بالجمهور "كلنا عالمسرح بسبب الراجل ده".
رسائل لمن؟
لكن هل كانت هذه رسائل من بابلو للجمهور، أم لشخص واحد بعينه؟
طوال مدة عمله على هذه المشاريع، بقي شخص واحد في السين -وشريك قديم- موقع تجاهل بابلو في العلن، ومحرك صفاته التنافسية في الباطن. فمنذ أن تشاركا أداء تراك "دايرة ع المصلحة" الذي افتتح مسيرتهما في 2018، وتسبب في الشرخ والخلاف بينهما بعدها، تحاشى بابلو الحديث عن ويجز طوال سنوات، لكن حربًا باردة بقيت تدور بينهما في الخلفية، عبر السوشال ميديا، والتراكات، وتحالفات السين.
"دايرة ع المصلحة" كان تراك النعمة والنقمة للاسمين. أحدث حين صدوره "قَلَبَان" في المشهد، وأعلن -من الإسكندرية- عن ولادة مشهد جديد ومواهب شابة، تعتزم تقديم المختلف والجديد. لكن الخلاف كان لا بد أن يقع عاجلًا أم آجلًا، فكيف لموهبتين بنفس الحجم والعمر، خارجتين من البيئة نفسها، لتقدما اللون والتجربة نفسها، أن تنطلقا في المرحلة نفسها دون أن تتنافرا؟
لكن حتى عداوة أو تنافسية مروان بابلو تخرج بانسيابية وهدوء كبيرين. حين يدسّ ويجز في مقطع أو بار، يفعلها بحذاقة وانسيابية. "يلطّش" بأسلوب غير مباشر، ويكشف ما يكفي فقط، ليلتقط جمهور السين فتات الخبز التي ينثرها لهم، ويتلذذون بطعم التشويق. وهو ما فعله كذلك في حفل "مشروع ميم"، حيث قدم تراك "بونو"، الذي كان دِسّ موجهًا ضد ويجز من ألبوم بابلو القصير الأحدث "انحراف" الذي سبق صدوره الحفل، ثم كرر أداءه للتراك ثلاث مرات متتالية. وهي حركة معروفة استوردها مباشرةً من قدوته كندريك لامار. فبعد أن قاد كندريك أكبر موجة دِسَّات ضد دريك خلال العام الماضي، وقدم في نهايتها الدس تراك الذي تحول لأبرز هيت في العام 2024 "Not Like Us"، قدم الرابر التراك في أحد أضحم حفلاته الحية، وكرره ست مرات متتالية، بقي صامتًا في آخرها وهو يسمع الآلاف من الجمهور يرددون عبارات الدس التي كتبها ضد خصمه. سرق بابلو الحركة من كندريك، لكنها من نوعية السرقات التي قال عنها بابلو بيكاسو:"الفنان الجيد يقلد، لكن الفنان العظيم يسرق"!
كل خطوة أو حفل أو ستوري أو تراك أصدرها مروان بابلو في الأشهر الماضية، كانت لها جمالياتها الخاصة، وحظيت بتفاعل خاص من الجمهور حين صدورها. لكن حين نأخذ خطوة للخلف ونتأملها جميعها من بعيد في سياقها الصحيح، نشعر وكأن بابلو يلعب الشطرنج. يتأنى، ويراقب، ويأخذ بهدوئه المعهود خطوات تبدو بسيطة، لا يظهر أثرها إلا بعد مرور بعض الوقت. أما الهدف النهائي لاستراتيجيته فهو وحده من يدركه. هل يكسب المشهد في صفه ليُحيِّد خصمًا قديمًا؟ أم أنه يبرهن للجميع أنه بوسعه الاستمتاع بالرحلة على طريقته الخاصة، بلا تنافس أو مزاحمات؟