مع إطلاق ألبومه الأخير "بيفور"، يُقدم الرابر المغربي مونس، تأملًا عميقًا في مسيرته الفنية التي امتدت لعشرة أعوام. تتبع بيلبورد عربية أبرز محطات هذا الصوت الفريد الذي نضج مع الوقت، معبرًا عن عوالمه الداخلية دون قيود. مع إطلاق ألبومه الأخير "بيفور". خط تعبيري يتحدث عما يشعر به، يَكُبه في بارات متتابعة تعكس تصوراته وانطباعاته عن العالم دون فلتر. فرادة هذه النوعية من الأصوات تكمن في أنها تتماس بشكل غير مباشر مع ذواتنا كمستمعين ومتابعين، يمكننا القول أنها قد تمثل بعض الأصوات الداخلية التي تنتابنا.
المرحلة الأولى : لسان بلا لجام
تبلور أسلوب مونس الفني في مرحلة البداية منذ إصداره الأول "واعرين"، مقدمًا بارات لاذعة واندفاعية تحلل المجتمع. تتميز طريقته هنا بالهجوم الذي لا يفرّق بين القريب والبعيد. يخلق ذلك لغة مميزة بتركيبات شديدة التعبيرية.
تجاوزت هذه الانطلاقة حدود النمط السائد بخيالها الواسع، خالقةً قاموسها الخاص من الصور المرئية والتشريحية القوية. جرب مونس في هذه الفترة مساحات موسيقية مختلفة، شملت التراب والدرام أند بايس والبوم باب والجاز والإلكترو وحتى البوب.
في تراك المقدمة من أول ألبوم "مونس نيشن"، وصف مونس طريقة إنتاجه بقوله: "دماغي خدام": هنا يقدم عقله مثل موظف. لم يتوارَ أيضًا عن الرد على المتهكمين على الهيب هوب، ففي تراك "1970" رد عليهم ببار "أما أنت خليك في الراي"، متعرضًا لأحد الجنرات الموسيقية الرائجة في المغرب العربي دون خوف.
تجاوز مونس ذلك ليسخر من ذاته شخصيًا في تراك "لا غوص"، حيث قلل من الفن الذاتي بقوله: "هاد حياتي اديرها في سي دي/ عاد فما يشيروه الكلاب". يعكس هذا البار رؤيته الشخصية بأن ما يقوم به هو تسليع لمعاناته الحياتية، ليشتريه من لا قيمة لهم مقابل أجر يهدف به للارتقاء ماديًا واجتماعيًا.
على النقيض من هذه الاندفاعية، ظهر وجهه الهش الخائف بعد عامين من مسيرته. كان مختبئًا وراء غطاء من اللامبالاة المصطنعة في تراك "بصري". فضّل مونس الهروب من أي ارتباط عاطفي وثيق، مُفضلًا العلاقات قصيرة المدى بلا مشاعر عميقة.
احتج مونس بأن الحب لأمثاله من الطبقات الاجتماعية المكافحة يعد عنصرًا مُعطلًا لمسيرتهم. يوضح هذا بشكل أكبر في تراك "تاف" الذي استعمل فيه جنرا اللو-في ليتداخل مع صوته، معطيًا له بُعدًا شاعريًا، في بار يقول: "أنت خدي المبادر وأنا أعيش مبيدر". تعني "مبيدر" التأرجح بين المبادرة والتراجع الذي يعكس قلقًا دائمًا من المستقبل.
المرحلة الثانية : سخط وتساؤلات
بعد 4 أعوام من مسيرته، تحديدًا في مرحلة أبرز ملامحها ألبوم "تيتو" الذي شمل تراكات صدرت بين عامي 2019 و2020 بالإضافة إلى سلسلة "أيوري"، بدأت معالم الإحباط والإنكسار تحضر في أعمال مونس. خفّت اللغة الساخرة لصالح التعبيرات الساخطة والغاضبة بشكل ملحوظ.
ففي كليب تراك "حياة إيجابية" يظهر معلقًا في سلة ملعب كرة سلة، شاكيًا من اضطراره لاستقبال رسائل إيجابية. يعبر عن ذلك ببارات مثل: "تخطينا إحنا الأنانية"، و"ناسي كل شي بيفقدنا الذاكرة".
حتى في التراكات العاطفية القليلة التي أصدرها مثل "لافيني"، لم تعد العلاقات مساحات للعبث والسخرية فقط، بل مناطق يتعرض فيها للجرح الغائر والخذلان. يجعله هذا يشيطن من غدرت به، قائلًا: "تبان لك ملاك وهي اللوسيفة". كما أعلن فقدان عقله لحيويته بقوله: "بيبي عقلي مكيف شوكو"، هذا العقل الذي كان يعتبره "ماكينة".
تطرق مونس أيضًا لأزمات جيله، مثل التراجع الواضح للتعليم، وهجرة أقرانه بحثًا عن فرص أفضل للعمل، بالإضافة إلى الاستهلاك المفرط للمواد الممنوعة. ورغم هذه الحالة السوداوية، شهدت تلك الفترة العديد من التراكات التبجحية الناضجة المنتمية لأسلوب الفريستايل في الفلو وطريقة كتابة البارات، التي لم تركز على مهاجمة رابرز آخرين بل على التفاخر.
من أبرز هذه الأعمال دويتو "كاس" مع الموتشو، حيث قدم إيقاعًا سريعًا متقنًا من البارات المتبادلة. كما تضمنت سلسلة "أيوري" العديد من التراكات ذات الانتقالات الحادة في الفلوهات والألحان.
سخط مونس في هذا الوقت مما جعله يميل نحو جنرات الدريل والتراب، مع حضور هامشي لجنرات هادئة مثل الموسيقى الكلاسيكية واللو-في.
المرحلة الثالثة : ألبوم بيفور بين النضج والقناعة
جاء ألبوم "بيفور" الأخير بوجه لم نعهده طوال مسيرته، بأسلوب كتابي هادئ للغاية ونظرة تأملية على ما مضى من رحلته. يعكس الألبوم اقتناعًا ورضًا بنتائج الخيارات السابقة ومآلاتها الحالية، مع تقبل للخسائر المنطقية الناتجة عن حرق الذات المتواصل.
يتجلى ذلك بوضوح في بارات تراك "ديل"، يقول: "أرادونا تايهين/ أنساهم وأنسى كلامهم". كذلك في تراك "طاير":غير الظلام اللي كاين في عيني/ دعاوى فاطيما -والدته- اللي نافعيني". يصل مونس في هذه المحطة إلى حقيقة أنه في النهاية وحده، فرد داخل منظومة كبيرة، ولن يستطيع أن يغير كل شيء.
في تراك "نبرة"، يوضح عجزه أحيانًا بقوله: "احنا بشر مش ماكينات". يستسلم أيضًا للوسائل التي تساعد البعض على الارتياح والتأقلم مع نمط الحياة المرهق، بإغراق جداولهم بمتابعة الأفلام والمسلسلات، معبرًا عن ذلك ببار: "بعمل نفسي ناسي قدام سيرييز أو فيلمات".
اختار مونس بذكاء تسمية تعاونه البارز مع "دوليبراين" ضمن الألبوم على لقب عائلة اللاعب عز الدين أوناحي. يشير هذا إلى مسيرة هادئة وفعالة دون صخب، تتوازى مع مسيرة مونس الفنية. يلخص البار الافتتاحي لتراك "رضينا بالقسمة / أحلامنا يموتوا صغار" كيف يرى الشاب المنطلق وضعه حاليًا. كما يتميز الإنتاج الموسيقي في الألبوم بتنوع وحيوية، شاملًا جنرات راقصة مثل الأفروبيت والبوب تراب.






