في العهد الأموي، قدم تاجر أقمشة عراقي من الكوفة إلى المدينة المنورة بخُمر فباعها كلها، وبقيت السود منها، فلم تنفق. شعر التاجر بغم جرّاء كساد بضاعته، وتزاحمت عليه الهموم، وقد كان صديقًا لربيعة بن عامر التميمي، الملقب بـ "مسكين الدارمي"، الذي اشتهر بالتغزل بالنساء، وفي أواخر حياته اعتزل مجالس الغناء، وتنسك.
شكا التاجر الذي لف الحزن قلبه للدارمي كساد بضاعته، فرق قلب الشاعر المعتزل لصديقه العاجز عن إعالة عائلته، وقال له: "لا تهتم فإني سأنفقها لك حتى تبيعها أجمع".tعمد الدارمي إلى ثياب نسكه، فألقاها عنه، وعاد إلى مثل شأنه الأول، وأخذ يقول: "قل للمليحة في الخمار الأسود/ ماذا صنعت براهب متعبد/ قد كان شمّر للصلاة ثيابه/ حتى وقفتِ له بباب المسجد". التقط التاجر البيتين ورددهما في أسواق المدينة. أخذ حينها إخوان الدارمي من النُسَّاكِ يلومونه ويسألونه: "ماذا صَنَعت؟"
فرد عليهم: "ستعلمون نبأه بعد حين."
جاء النبأ سريعًا، بعدما أتت ثمار أبياته أُكْلَها، وذاع الخبر بين الناس بأن الدارمي ترك حياة الزهد بعدما فتنته فتاة ترتدي خماراً أسودَ، فأقبلت النسوة في المدينة على شراء هذا اللون، فكل واحدة منهن تريد أن تكون تلك المليحة. وهكذا باع التاجر العراقي بضاعته، وعندما علم ربيعة بن عامر بذلك عمد إلى ثياب نسكه فلبسها، ورجع إلى تعبده. برغم ذلك ظلت أبياته تتنقل من فم إلى أذن منذ أكثر من 1300 سنة، حتى وصلت شهرتها إلى عصرنا هذا.
في رحلتها تلك، تعرّضت أبيات الدارمي إلى تحويرات وإضافات عدة، فعندما أراد الملحن العراقي أحمد الخليل تلحينها، عمل الفنان شعوبي إبراهيم على تخميسها، فأصبحت بنيتها على النحو الآتي: "يا داعياً لِلّهِ مرفوع اليدِ/ متضرّعاً متوسّلاً بالمُنجد/ يا طالبًا منه الشفاعة في غدِ/ قُلْ للمليحة في الخمار الأسودِ/ ماذا فعلتِ بناسكٍ متعبّدِ"
ضمن المقامات الشرقية، وحّدت أبيات الدارمي العرب بعدما استوطنت قلوبهم، فغناها جملة من الفنانين والمطربين من شتى بقاع الوطن العربي. وقد مات الدرامي سنة 89 هجرية، لكنه ترك خلفه "أغنية" ظلت عصية على الموت. t
ظهرت القصة للمرة الأولى عبر الشرق بودكاست.