في ستوديو فسيح خارج القاهرة، قبل أسابيع من إطلاق ألبومه الجديد، يجلس مروان موسى في هدوء لا يعرفه إلا من خَبَرَ الحزن. ليس هدوء المتعالي أو خاوي الوفاض. بل ذلك الهدوء الذي يميز شخصًا غاص في نفسه حتى الأعماق ثم استطاع، بطريقة ما، أن يرجع حاملًا أغنية؛ أو في هذه الحالة 23 تراكًا تؤلف ألبومه الأخير "الرجل الذي فقد قلبه"، ليكون واحدًا من أطول ألبومات المشهد المصري.
لم يولِّف مروان تراكات الألبوم عبر بضعة شهور، هكذا يكشف في مقابلة الغلاف مع بيلبورد عربية، بل ظل ينحت موسيقاه وكلماته من مشاعره المضطربة، المتغيرة، وكأنه يرسم به مسارًا للتعافي الطويل والبطيء من ذلك الحزن الذي ضربه بعد وفاة أمه قبل نحو سنتين. ألبوم "كان فيه نوع من العلاج النفسي"، مثلما يقول. وكأنه يكتب مذكرات ثم يعيد قراءتها فيأخذ نظرة مختلفة عن حياته.
خمس مراحل للحزن
في هذا الألبوم يأخذ مروان موسى منحى أكثر حميمية وتأملًا، ليقدم عملًا يمكن اعتباره الأكثر شخصية في مسيرته حتى الآن. يروي الألبوم رحلة طويلة مع ذلك الشعور المربك المسمى بالحزن؛ رحلة قسَّمها إلى خمسة أقسام: الإنكار، الغضب، المساومة، الاكتئاب، و-أخيرًا- التقبل. رحلة يحدد فيها مروان بقلم خفيف الأثر الذي تركه وراءه، لكي يتبعه الآخرون. يقول "طبعًا المراحل مش بالترتيب. إنت ممكن تبقى في غضب وبعدين فجأة تلاقي نفسك في اكتئاب. وبعدين ترجع إنكار".
ليس الألبوم مجرد توثيق للألم. بل يعيد مروان تفكيك ذلك الألم صوتيًّا، في مزيج يجمع بين التراب الشعبي، وأصوات السنث الثقيلة، والميلودي العاطفي، وتسجيلات من حياته العائلية مثل صوت والده. حالات نفسية متضاربة لكنها متصلة بخيط سردي واحد، وكأنه يكتب مذكرات مسموعة في صراع داخلي مع الخسارة.
خذ تراك "بص يا كبير". التراك يدور ويدور، لا في حلقات، ولكن في مسار حلزوني إلى أسفل. داخل الذاكرة والفشل. "بيت" ملتوي يمضي متعثرًا مثل شخص يتعلم المشي من جديد. تدفقه ليس سلسًا، بل مشوهًا. هكذا تبدو كسرة القلب وهي لا تزال طازجة. في الفيديو المصاحب للأغنية -من إخراج يوسف هريدي- يظهر مروان وحده تحت سماء خاوية. يحارب انعكاس صورته. يجيء ويذهب بين أركان غرفة ترفض أن تنفتح.
يقول مروان "كان هدفنا خلق شيء سريالي ومفعم بالطابع الشرقي. شيء مميز". خرجت الصورة صارخة لكنها ليست يائسة. لا تصور رجلًا مكسورًا؛ بل رجلًا في مرحلة التعافي.
مروان المجدد
إذا كان هذا الألبوم نقطة تحول في مسيرة مروان موسى، فهو ليس جديدًا على التحولات. فعلى مدار السنوات العديدة الماضية استطاع أن يصبح واحدًا من أكثر الأصوات تأثيرًا في الهيب هوب العربي، ليس فقط كرابر، ولكن كمنتج موسيقي خلف العديد من الهيتات. اسمه موجود على قائمة أعلى 100 فنان منذ أكثر من 55 أسبوع متصلة.
بدأ مسيرته في مشهد الهيب هوب المصري عام 2016، حين قدم أولى إصداراته على منصة ساوندكلاود. وفي العام التالي جذب الانتباه بتعاونه مع أبيوسف في "لاء مفيش" و"زغزغته". ثم بدأت تتبلور مسيرته كرابر ومنتج موسيقي متمكن.
في 2018 أطلق أول فيديو كليب له بعنوان "كيكي"، مثَّل نقلة على صعيد الإنتاج. تبعها في 2019 بإصدار "فرعون"، التي تميزت بقوافٍ غير متوقعة وتلاعب لغوي حاد فوق "بيت" بإيقاع صلب وتقنيات إنتاج متقدمة.
مرَّ على أكثر من نوع موسيقي، لكن تراك "البوصلة ضاعت" سنة 2019 شكل نقطة تحول حاسمة، ليس في مسيرته فحسب بل في مشهد التراب المصري ككل، إذ كان من أوائل التجارب التي دمجت تأثيرات الشعبي مع التراب، واضعًا بذلك البذور الأولى لما بات يعرف لاحقًا بالتراب الشعبي. ثم جاء ألبومه الصادر عام 2021 باسم "فلوريدا" ليرسخ سمعته كمجدد -مازجًا بين الإيقاعات الشرقية والإنتاج التجريبي بطريقة لم يجرؤ عليها كثيرون.
لكن "الرجل الذي فقد قلبه" تجربة مختلفة. بدا وكأنه استثمر فيها مجمل خبراته السابقة، في التراب الشعبي، والتجريب الصوتي، وموضوعات الموت والغياب نادرة التناول في هذه الجنرا.
من البيف إلى التعاونات
يميل هذا الألبوم إلى التعاون مع الزملاء، لا مصارعتهم. لا يعبر ذلك عن رفض للبيف الذي يراه مروان "حاجة إنسانية. حاجه موجودة على الكوكب"، بل إن وجوده يقوِّي مشهد الراب أكثر فأكثر. يدرك مروان أن التعاونات تفتح الآفاق، وأن الاستماع إلى أبناء الصنعة يزيد الرابر خبرة. "ما ينفعش إنك تتعلم غير من التعاونات"، التي تفتح العقل لوجود أساليب وطرق مختلفة.
الألبوم شهد عددًا من التعاونات القوية، أبرزها مع الوايلي كمنتج موسيقي في أغنية "ياما"، ومع عفروتو. علاوة على التعاون مع ليجي-سي، ومع دنيا وائل التي اعتبر مروان وجودها في الألبوم، بحالاته الشعورية المختلفة، بالغ الأهمية. "أنا عايز كل حد يسمع الصوت بتاع دنيا وائل جوا الألبوم يفهمه بطريقته" قد يعتبرها حبيبته، أو صديقة له، أو المعالجة النفسية التي يزورها.
صورة جديدة للرابر
"مع إن احنا رابرز طبعًا وطول الوقت احنا أجمد ناس. بس زي ما تقول إنك جامد أوي لازم تبقى صريح وتقول ساعات الحاجات اللي إنت مش جامد فيها. عشان لما ترجع تقول للناس إنك جامد يصدقوك".
بالنسبة لمروان، العثور على الصوت يعني المجازفة بكل شيء: الانفصال البارد عن صورة الرابر القاسي الشديد، التبجح الذي كثيرًا ما يحمي الألم. ما نقله بدلًا من ذلك شيء أقوى، وأبقى أثرًا: وثيقة لانكسار القلب.
لكنها ليست وثيقة فحسب.. إنها رسالة أيضًا، رسالة لكل من جرب الفقد: يجب أن تواجه أحاسيسك، لا تهرب منها، لكي تصبح قادرا على "مواجهة الدنيا تاني".
ربما هنا القصة ليست أنه فقد قلبه، ولكن أنه لملم شظاياه وأهداهها إلى مستمعيه، وقد تحولت إلى سطور شعرية، وجمل موسيقية، وصمت.
ولعله في ذلك، عثر على قلبه من جديد، وعلى صوته.