في حين توجه مشهد الهيب هوب المصري مؤخرًا إلى التباهي بالمال والسطوة والنفوذ، بدا مروان موسى في ألبومه الجديد وكأنه ينقلب على هذا كله. رحيل والدته قبل حوالي عامين جعله يواجه هشاشته، وظهر ذلك واضحًا في موسيقاه.
أطلق مروان موسى قبل أسبوعين كليب "بص يا كبير" كعيّنة تمهيدية من ألبومه القادم، وبدا واضحًا أنه يدعو جمهوره إلى رحلة شخصية حميمية. من الكلمات التي يوجّهها لنفسه، إلى وقوفه أمام المرآة في الفيديو كليب مجرَدًا من كل البذخ، في صورة فنية مكشوفة وصادقة.
استعان في مشاهد الكليب بتأثيرات الموالد ودوران الدروايش كرموز للتخلص من الأثقال، وبدت نبرته الغنائية مكسورة ومجروحة، دون اهتمام بالترتيب أو التجميل. دخل في حالة من الدروشة أشبه بطقس تطهّري حين يذوب الجسد في المعنى، ويصبح الصوت هو الوسيلة الوحيدة للبوح.
في ألبومه الطويل "الرجل الذي فقد قلبه"، يروي لنا مروان قصته عبر تتبع خمس مراحل من الحزن، ليحكي عن رحلته العاطفية مع الفقد. رحلة يتخلّلها الألم والإنكار، ثم التفاوض مع الحزن، وصولاً إلى لحظة التقبّل، للجروح العميقة التي خلّفها فقدان أمه.
ثيمات متكاملة في المواضيع والإنتاج الموسيقي
تقديم ألبوم مكوّن من 23 تراكًا -أول ألبوم هيب هوب مصري بهذا الطول- كان خطوة جريئة لا يمكن تجاهلها. خاصة في مشهد موسيقي بات يميل إلى الإصدارات القصيرة والمحتوى السريع، ليكون الألبوم رهان على الإصغاء للتجربة والحكاية المتكاملة، لا مجرد الاستهلاك العابر.
تتعدد ثيمات الألبوم بين العودة إلى جذوره الألمانية والإسماعيلية، حيث ولد الصراع مع الذات، وبين هواجس عالم صناعة الهيب هوب والانترنت، التي تغذي فكرة العزلة والبحث المستمر عن الهوية في عصر المعلومات.
في تراك "فواتير العتاب" يدخل في مواجهة مباشرة مع الفقد، مستخدمًا الراب والموسيقى كأدوات لالتقاط تفاصيل الصراع النفسي. بينما يلجأ في "تقاطع"، أحد أكثر لحظات التعقيد العاطفي في الألبوم، إلى استخدام السمبلة كوسيلة للتواصل مع ماضيه، وذاكرة مستمعيه. يبدأ التراك بسامبل من أغنية "شجر الليمون" لمحمد منير، ليس من باب إحالة نوستالجية بل كأداة استبطان عميق، تخلق تفاعلًا بين الحاضر والماضي.
تظهر نهاية التراك وكأنها محادثة مباشرة مع منير، يسعى خلالها للبحث عن أجوبة داخل دوامة عاطفية معقدة، لتكون من المرّات النادرة التي نسمع في صوت منير كسامبل في تراك هيب هوب.
كما يسمبل صوت عايدة الأيوبي من أغنية "إن كنت غالي عليك"، وهي واحدة من أكثر الأغاني ارتباطًا بالفقد والحزن في الذاكرة المصرية، ليحوّلها إلى عنصر درامي، ويُوظّفها في تراك "يابا ليه" كركيزة عاطفية تتقاطع مع صوته. وقد تشارك في إنتاج هاتين الأغنيتين مع المنتج حاتم.
على مستوى الإنتاج، نجح مروان موسى في تنفيذ أغلب تراكات الألبوم بنفسه، مما يعكس تطورًا واضحًا في مهاراته الإنتاجية التي تتماشى مع تطور مسيرته كرابر.
يحضر التراب الشعبي في الألبوم كأحد أعمدته الصوتية، ليس كتقليد بل كامتداد طبيعي لهوية مروان التي طالما استلهمت الإيقاعات الشرقية.
في تغريدات سبقت الألبوم، كشف موسى شغفه بتفكيك هذه الإيقاعات، من المقسوم إلى الشرقي، وشارك رابطًا يشرح تفاصيلها. يظهر هذا التوجّه في "فواتير العتاب" ويمتد إلى "شواف" و"بائس"، حيث يوظفها لاكتشاف طبقات جديدة من صوته.
تعاونات مروان موسى المدروسة
ضمّ الألبوم سلسلة تعاونات محدودة العدد، لكنها مصمّمة بعناية لتخدم بنيته النفسية والصوتية. ينساب صوت الفنانة الشابة دنيا وائل في خلفية أكثر من تراك لنشعر وكأنه صدى للأم الغائبة، يهمس لموسى بألّا يخاف من الانكسار، ويدعوه لاحتضان مشاعره وتركها تأخذ شكل الإناء، كما الماء. كما تشاركه دنيا الغناء في تراك "سامعاك".
تأتي الذروة مع ليجي-سي في تراك "كلميني"، حيث يجتمع صوتان يعرفان الحزن عن قرب: أحدهما يحتضنه، والآخر يذوّبه في الغناء. الهوك مصاغ بتقنيات صوتية دقيقة من تكرار نغمي محسوب إلى هندسة تجعله يلتصق بالذاكرة، ليصبح التراك صوت الحزن الذي يرافقنا بعد الثانية صباحًا.
أمّا "ياما"، فتأتي كثمرة تعاون نادرة مع الوايلي منتج موسيقي وعفروتو، تحمل مزاج غنّي بالنوستالجيا والغضب، وتمنح الألبوم طيفًا آخر من التوتر العاطفي. وفي "مكيافلي"، يضيف حليم تاج السر من مشهد الهيب هوب السوداني حضورًا دراميًا ذكيًا.
إلى جانب التعاونات قدم موسى تحية خاطفة لأبيوسف، متجاوزًا سنوات من البيف العلني في بار: "لولا الطاي ماكانوش شافوا مروان"، من تراك "تقاطع" في إشارة إلى اسمه الحقيقي يوسف الطاي، الذي كان له دور في جذب موسى إلى الراب المصري في بداياته.
إلى جانب "بص ياكبير"، صدرت أربع تراكات تمهيدية قبل صدور الألبوم بالكامل، برزت منها "فهمان دنيا" والتي جاءت كعرض مكثّف لمهاراته التقنية في الكتابة والإنتاج، كما قدمها في جلسة حيّة مع منصة From the Block Global.
وقف أمام المايكروفون كأنه يلقي مونولوج عبارة عن اعتراف داخلي بأسلوب الفريستايل، في مشهد صناعي قاسٍ، خالٍ من التجميل أو الإخراج الزائد. تحكّمه في الفلو (Flow) كان استثنائيًا، إذ تنقل بسلاسة بين السرعات، فوق بيت تقليلي (Minimalistic) لاحق صوته دون أن يتقدمه.
كتابته هنا مرعبة في صدقها، لم يكتفِ بكشف جراحه، بل وضعنا أمام جراحنا نحن أيضًا، من دون وساطة أو تلطيف، كما يقول: "وهَوِّدي حزايني / وأخليك تبكي أنا زي الناي".