عرف الجمهور صوت ميادة الحناوي كأحد أبرز الأصوات الطربية الأصيلة التي لمعت في عالم الغناء العربي، وكانت من المحظوظين الذين انطلقت مسيرتهم بتعاونات مع كبار الملحنين. فقد اكتشفها الموسيقار محمد عبد الوهاب، وتبناها فنيًا إلا أن مشروع التعاون بينهما لم يكتمل، إذ يُقال إن أغنية "في يوم وليلة" كانت ستُقدم بصوتها قبل أن تنتقل إلى وردة إثر خلاف بينهما.
ورغم ذلك وجدت ميادة انطلاقتها الحقيقية مع بليغ حمدي الذي شكل معها ثنائيًا فنيًا من خلال أعمال خالدة مثل "أنا بعشقك" و"الحب اللي كان" والتي أسهمت في ترسيخ اسمها في ذاكرة الجمهور العربي.
مع بداية التسعينات وبعد وفاة بليغ الذي كان أقرب إلى الأب الروحي لها، دخلت ميادة مرحلة جديدة من التعاونات، اختارت خلالها أسماء من الجيل الجديد من الملحنين في ذلك الوقت. ومن بين هؤلاء برز اسم صلاح الشرنوبي، الذي استطاع أن يقدم لميادة مجموعة من الأغنيات الطربية التي حافظت على أصالة صوتها مع لمسات موسيقية أكثر عصرية ومرونة.
نستعرض في هذه القائمة خمس من أنجح ثمار هذا التعاون الذي أعاد تقديم ميادة بصيغة فنية متجددة خلال حقبة التسعينيات.
الشمس
أُدرجت أغنية "مهما يحاولوا يطفوا الشمس"ضمن ألبوم قصير حمل عنوان "أمر الهوى" صدر عام 1993، وهي من كلمات عمر بطيشة وتوزيع طارق عاكف ولحن صلاح الشرنوبي بالطبع. الثلاثي نفسه كان قد حقق نجاحًا باهرًا مع وردة في أغنية "بتونس بيك"عام 1992، إلا أن "الشمس" جاءت لتلائم شخصية ميادة الحناوي الطربية والرومانسية.
يبدأ اللحن بهمسة هادئة تنقلها ميادة بصوت خافت كأنها تسر بكلماتها قبل أن يتصاعد تدريجيًا في اللازمة القوية "مهما يحاولوا يطفوا الشمس" لتعلن بصوت واثق وعاطفة مشتعلة عن شدة تمسكها بهذا الحب.
ثم تهدأ النبرة مجددًا وكأن اللحن يصور مدًا وجزرًا لمشاعر لا تهدأ، حتى نصل إلى المقطع الختامي المؤثر "حتى في آخر يوم من عمري / كنت هجيلك برضه يا قدري". تتبدل هنا الجملة اللحنية لتصبح أكثر شجنًا وتعكس نهاية العمر بمرارة محبة لا تموت. ويكمل طارق عاكف هذا الإحساس بتوزيع درامي يتكئ على الوتريات والإيقاعات المركزة ما أضفى على الأغنية عمقًا ملموسًا.
المفاجأة كانت حين عادت هذه الأغنية مؤخرًا إلى الواجهة بعد أكثر من عقدين من الزمن، إذ لاقى مقطعها الأخير انتشارًا واسعًا على منصة تيك توك ليرافق لحظات عاطفية من حفلات الزفاف ومقاطع رومانسية وكأنها وُلدت من جديد بلغة الجيل الحالي.
أنا مخلصالك
أغنية "أنا مخلصالك" كانت أيضًا من المحطات البارزة في ألبوم "أمر الهوى" الذي بدا وكأنه رسالة حب من أربع صفحات كُتبت بمشاعر نقية وعاطفة. الأغنية صُورت فيديو كليب بما كان متاحًا حينها من إمكانيات إنتاجية بطريقة بسيطة تناسب طابعها الطربي الكلاسيكي.
أتذكر جيدًا من طفولتي وقت صدور هذه الأغنية، وكيف كان صوت ميادة يتردد في كل مكان من محال الكاسيت إلى المقاهي. ما إن تمر بجوار أحدها حتى تسمع ميادة تُغني بإخلاصها الهادئ كأن الأغنية كانت نشيدًا شخصيًا لكل من عاش حبًا مؤجلًا أو منتظرًا.
تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية على إيقاع المقسوم أشبه بحوار موسيقي مستقل، قبل أن تدخل ميادة بجملتها الأولى: "أنا مخلصالك حقيقي أنا / روحي وعمري وقلبي أنا"، لتتغير الجملة اللحنية مباشرة بعد ذلك ويتبدل الأداء كما لو أن كل سطر يحمل نغمة مختلفة وحالة شعورية مستقلة وهي واحدة من بصمات الشرنوبي الأبرز والتي لا يمكن إنكارها.
يا شوق
في عام 1996 طرحت ميادة ألبومها "يا شوق" والذي حملت أغنيته الرئيسة توقيع الثلاثي الذهبي: صلاح الشرنوبي في الألحان وعمر بطيشة في الكلمات وطارق عاكف في التوزيع. تبدأ الأغنية بمقدمة موسيقية تمتد لما يقارب الدقيقة، تُشبه استعراضًا موسيقيًا ساحرًا حيث يتحاور الساكسفون والأكورديون برشاقة قبل أن تنضم إليهما الإيقاعات لتشكل أرضية غنية تمهد لدخول ميادة.
ذاتية للتعافي من قصة لم تُثمر.
رغم محاولة الانفتاح على العصر ومواكبة المتغيرات التي طرأت على الساحة الغنائية في منتصف التسعينيات، لم تتخل ميادة عن هويتها الطربية الأصيلة بل قدمت عملًا يُوازن بين العراقة والتجديد. وهنا تتجلى براعة صلاح الشرنوبي الذي كان في أوج عطائه، إلى جانب فريق عمل يؤمن بقيمة اللون الطربي، فقدموا لها أغنية تنافس من خلالها الجيل الجديد دون أن تتنازل عن جوهرها
كبريائي
تكمن روعة تعاونات ميادة الحناوي مع صلاح الشرنوبي في ذلك التنوع الملحوظ الذي تحمله كل أغنية حتى وإن كانت من الألبوم نفسه أو من توقيع الفريق ذاته. ففي ألبوم "يا شوق" برز هذا التباين بوضوح من خلال أغنية "كبريائي" التي كشفت جانبًا مختلفًا تمامًا عن شخصية ميادة الفنية بعيدًا عن الحنين والرومانسية.
تبدأ الأغنية بمقدمة درامية تحمل توترًا داخليًا، وكأنها تمهد لانقلاب عاطفي. ومع أول كلمة تغنيها ميادة "كبريائي" يُبدع الشرنوبي في تلحينها بتقسيمها وإطالة نُطقها، لتُصبح الكلمة نفسها تجسيدًا لحالة التحدي والتخلي عن الحب لأجل الكرامة.
وتتوالى الجمل اللحنية، فتأتي بصوت ميادة الجملة المؤثرة: "حبي بيخليني أقرب / وأما أقرب برجع أهرب"
لتنقل ببراعة صراعًا داخليًا بين العاطفة والاعتزاز بالنفس، قبل أن يتغير الإيقاع مجددًا في المقطع التالي حيث تتحدث عن ضرورة البُعد والهروب كخيار مؤلم لكنه ضروري.
وقد صوّرت ميادة الأغنية فيديو كليب إلى جانب أغنية "يا شوق"من نفس الألبوم لكنها حافظت على الشكل الكلاسيكي المعروف عنها، حيث تظهر واقفة تؤدي الأغنية دون الحاجة لمشاهد تمثيلية أو قصة درامية. حتى في الكليبات كانت ميادة تختار أن تظل قريبة من جمهور الطرب بثباتها وأدائها النقي، دون أن تتخلى عن جوهر الأغنية أو عن وقارها الفني.
توبة
في عام 1999، أصدرت ميادة ألبومها "توبة" والذي حمل اسم الأغنية الرئيسة من كلمات مصطفى مرسي وألحان صلاح الشرنوبي وتوزيع محمد مصطفى. يُظهر هذا العمل انفتاحًا محسوبًا على جيل أصغر من صناع الأغنية مع الحفاظ في الوقت نفسه على بصمة الشرنوبي الذي تولى تلحين الأغنيات الست كافة في الألبوم.
ورغم أن الألبوم لم يُحقق الصدى الجماهيري نفسه الذي عرفته أعمال ميادة السابقة إلا أن أغنية "توبة" تحديدًا جاءت بلحن رشيق ومعاصر يُواكب تغيرات الساحة الغنائية في أواخر التسعينيات من دون أن يُفقدها هويتها الطربية. صوت ميادة بدا أكثر خفة وأقرب إلى فتاة عشرينية تروي خيبة حب سابقة وتعلن بتردد وصدق أنها تائبة عن الحب متجنبة تكرار الخطأ.
هذا التوازن بين الرشاقة الفنية والصدق التعبيري هو ما ميز علاقتها الفنية بصلاح الشرنوبي. وربما لهذا السبب لا يزال الكثير من جمهورها يتساءل حتى اليوم: هل من الممكن أن يعود هذا الثنائي مجددًا؟ خصوصًا بعد عودة ميادة إلى الساحة العام الماضي بأغنيات جديدة بعد سنوات من الغياب.