على مدى أكثر من عقدين من الغناء، بنت شيرين واحدة من أكثر المسيرات تنوعًا في تاريخ البوب العربي الحديث، جمعت خلالها بين النجاح التجاري والقدرة على التجريب الفني. ومع أن أغنياتها الأشهر كـ“كلي ملكك” و“آه يا ليل” و“جرح تاني” حجزت لها مكانة دائمة في وجدان الجمهور، فإن خلف هذه النجاحات تقف مجموعة من الأعمال الأقل تداولًا التي تعكس عمق تجربتها كمغنية وصاحبة حس موسيقي نادر.
بمناسبة عيد ميلاد شيرين عبد الوهاب -الفنانة العربية الأكثر استماعًا حول العالم كما تظهر قوائم بيلبورد عربية الأسبوعية- نجمع لكم هذه القائمة التي تضم تسع أغنيات من مراحل مختلفة في مسيرتها، بعضها مرّ سريعًا دون أن يأخذ حقه من الانتشار، وبعضها لم يُروّج له تجاريًا رغم قوته الفنية، لتكشف لكم هذه الاختيارات عن طبقات فنية وإنسانية في صوت شيرين قلّما تناولها النقاد أو صُنّاع القوائم الموسيقية.
بالك
أدت شيرين أغنية "بالك" ضمن أحداث فيلم "ميدو مشاكل" عام 2003 وهي تجربتها السينمائية الوحيدة. جاءت الأغنية بإحساس رومانسي بسيط يتماشى مع شخصية شيرين في الفيلم. اعتمد اللحن على بناء بوب مصري خفيف، مدعوم بإيقاع راقص وعزف كيبورد واضح، ما جعلها قريبة من ذوق الجيل الجديد في ذلك الوقت.
وقد نجحت الأغنية في أن تبرز نغمة شيرين الدافئة وقدرتها على الجمع بين العفوية والصدق العاطفي، وقد خرجت الأغنية من حدود الفيلم إلى جانب أغاني أخرى مثل "روق"، لتساعد في ترسيخ حضورها بالمشهد الغنائي المصري مطلع الألفية. *من اختيارات نور عز الدين
قال صعبان عليه
صدرت أغنية "قال صعبان عليه" ضمن ألبوم "لازم أعيش" 2005، والذي شكل محطة مفصلية في مسيرة شيرين، خاصةً وإنه كان ثاني ألبوماتها الخاصة بعد نجاح "جرح تاني"، وآخر ألبوم تتعاون فيه مع شركة فري ميوزك قبل انتقالها إلى روتانا. جسدت الأغنية لحظة نضوج فني وعاطفي لافتة، حيث أدّت كلمات بهاء الدين محمد وألحان محمد نور بإحساس هادئ يوازن بين القوة والحنين.
جاءت الكلمات مكثفة ومباشرة، تخلو من الزخرفة وتعبّر بلغة الحياة اليومية عن مشاعر الفقد والخذلان دون استسلام. واختارت شيرين أن تقدّمها بصوت خافت ومليء بالانفعال الداخلي، فتجنبت النبرة الاستعراضية واكتفت بتصعيد تدريجي في الإحساس بدلاً من القوة الصوتية المعتادة. بينما استند اللحن إلى جمل ميلودية قصيرة ودافئة تتدرج بهدوء بين المقاطع والكوبليهات، ما أتاح للأداء أن يعكس التحولات النفسية في الكلمات من المرارة إلى التماسك، ومن الحنين إلى الكبرياء. *من اختيارات نور عز الدين
ما تعتذرش
صوت شيرين الذي تناسبه كل الألوان بلا استثناء، قدّم التنوع المطلوب منه وأكثر طوال عقدين من الغناء، والطرب كان حاضرًا دومًا في ألبوماتها المختلفة، ولو بأغنية واحدة على الأقل طربية التوزيعات أو الجمل اللحنية.
أغنية "متعتذرش" صدرت منفردةً في العام 2011، وحملت توقيع النجم ماجد المهندس في الألحان، لتكون التعاون الوحيد بينهما على الإطلاق، ومن الألحان النادرة التي قدّمها المهندس لفنانين آخرين عبر مسيرته. فيما عمل على توزيعاتها محمد مصطفى، الذي كان حينها متزوجًا من شيرين. قدّمت هذه الثلاثية النادرة أغنية خارجة عن كل التوقعات في تلك المرحلة، أغنية من زمن آخر. في أحد منعطفات اللحن، تهدأ الآلات ويبقى صوت الرق مرافقًا صوت شيرين وهي تغني: "تعال جنبي/ قلبي سامح قسوتك"، وكأن جملة بهذه الرقة تختصر شخصية مؤديتها وعمق مشاعرها وعطائها في الحب.
حتى الفيديو كليب المرافق للأغنية، صورته شيرين بصحبة المخرج وليد ناصيف في بيروت، المدينة الأحب إلى قلبها، وبدت عبره مشعةً بشكل خاص، ووازنت إطلالتها فيه بين النضج والجدية وبين الدلع والشقاوة. *من اختيارات هلا مصطفى
مفيش مانع
من بين أبرز الأغاني الدرامية في ألبوم "حبيت" الصادر عام 2009، تبرز أغنية "مفيش مانع" كإحدى العلامات المميزة في مسيرة شيرين عبد الوهاب الغنائية، وخصوصًا في منطقة الحزن الصادق والانكسار العاطفي الأغنية كتبها جمال الخولي ولحنها تامر علي أما التوزيع فكان لفهد وجميعهم نسجوا عملًا يفيض بالشجن من اللحظة الأولى.
تبدأ الأغنية بآهات شيرين التي تتسلل إلى قلب المستمع قبل حتى أن تنطق بكلمة وكأنها تبكي من الداخل، ثم تستجمع صوتها المكسور لتقول: "مفيش مانع/ يخليني أخاف لو قلت أنا نسيتك/ معوتش باقية على حاجة/ ياريتني ما كنت حبيتك"،هنا لا تغني شيرين فقط بل تعترف تتألم وتُسقط الكلمات كأنها تنهار من ثقل التجربة.
الموسيقى تخدم المعنى بالكامل مع فواصل صوتية مدروسة تنقل المستمع بين موجات من الندم والتذكر والبكاء، وكأن الأغنية تحفر في الذاكرة لتستخرج منها تلك اللحظة المؤلمة التي نحاول دفنها ولا نستطيع. لا شيء في هذه الأغنية مُفتعل أو متكلف، الأداء عفوي حد القسوة والصوت متصدع كأن شيرين تغني من قلب الجرح نفسه لا عنه فقط. *من اختيارات نورهان أبوزيد
أنا كتير
في عام 2014 أصدرت شيرين عبد الوهاب ألبوم "أنا كتير" والذي ضم 12 أغنية تنوعت بين الرومانسية والدرامية، كان من أبرزها "كلي ملكك" التي أصبحت من أيقونات أغاني الحب و"يا ليالي" التي حققت نجاحًا جماهيريًا واسعًا بتجاوزها حاجز 170 مليون مشاهدة على يوتيوب. لكن الأغنية الأعمق وربما الأقل انتشارًا شعبيًا رغم ثقلها الفني كانت الأغنية الرئيسة التي حملت اسم الألبوم "أنا كتير"، والتي تجردت من أي خطاب عاطفي موجه لحبيب لتغني فيها شيرين للذات بصدق مؤلم وجرأة نادرة.
تقول في مطلعها: "أنا كتير / أنا ألف حاجة على بعضها في حاجة واحدة / أنا واحدة عايشة لوحدها مش حاسة وحدة / في ضحكي حزن غريب أوي، وفي حزني ضحكة".
بهذه الكلمات الموجعة التي كتبها أحمد الحبشي ولحنها مدين ببراعة تُحسب له، انسكبت شيرين في الأغنية بكل هشاشتها وقوتها، فجاء أداؤها متماسكًا رغم التصدع الداخلي الذي تعبر عنه الكلمات. لعب مدين على التناقض اللحني بين القرار والجواب فجعل الجملة الموسيقية تتحرك برفق بين التوتر والانفراج وكأنها مرآة لتقلبات الداخل التي تحكي عنها شيرين.
ليست هذه أغنية شائعة تُطلب في الحفلات لكنها واحدة من أعمق اختيارات شيرين وأكثرها ملامسة لوجدان النساء اللاتي مررن بتجارب التيه والخذلان، واكتشفن لاحقًا أن حب الذات هو البداية الوحيدة الممكنة للنجاة. *من اختيارات نورهان أبوزيد
بحبك مع محمد محيي
رغم أن شيرين عبد الوهاب كانت لا تزال في بداياتها الفنية، فإن تعاونها المبكر مع محمد محيي في دويتو "بحبك" عام 2001 ضمن ألبومه "صورة ودمعة" كان متمكنًا بشكل يصعب تجاوزه. الأغنية كتبها مصطفى كامل ووزعها موسيقيا محمد مصطفى، بينما استند لحنها بشكل واضح إلى أغنية Flamenco للمطربة العالمية داليدا.
وعلى الرغم من أن الأغنية جاءت كلقاء بين صوتين متباينين في الأسلوب والخبرة، إلا أن النتيجة النهائية قدمتهما في مساحة مشتركة. لكن اللافت حقًا هو بروز شخصية شيرين وحضورها الواضح.. وكأنها التلميذة التي لم تكتفي فقط بتجاوز أقرانها، بل مضت في طريقها لتتفوق على أستاذها وتبني مسيرة فنية امتدت لأكثر من عقدين، تضيئها أغنيات لا تزال حاضرة في وجدان الجمهور قديمها وحديثها. *من اختيارات نورهان أبوزيد
مراية
بعكس معظم أغانيها، تشركنا شيرين هنا في سرديتها بسؤال افتتاحي صادم يتعلق بذاتنا: "هتعمل إيه لو نمت يوم وصحيت/ بصيت وشفت نفسك في المراية بكيت/ جواك سؤال تصرخ تقول أنا مين؟ أنا مين؟". ولا تكتفي بترك التساؤلات مرمية على قارعة الطريق، بل تتوغل بعدها بعمق ملقية اللوم على الذات، ومحطمة كل الحجج والأعذار التي نضعها لنتجنب محاسبة أنفسنا.
"مراية" هي واحدة من أهم أغاني شيرين التي تطرقت للألم النفسي بعيدًا عن المواضيع العاطفية المباشرة وقصص الهجر والشوق، أضعها بجانب أغنية حسين الجسمي "محدش مرتاح" الصادرة عام 2012، وقد ارتبط كلاهما بأعمال فنية حيث ظهرت "مراية" كأغنية ترويجية لفيلم "آسف على الإزعاج" لأحمد حلمي الصادر عام 2008، بينما صاحبت "محدش مرتاح" مسلسل الجريمة "فيرتيجو" الصادر عام 2012. علمًا أن كلتا الأغنيتين من كلمات أيمن بهجت قمر. *من اختيارات يوسف علي
بص بقى
هو تعاون بنكهة ألبوم "فري مكس 3"، الألبوم الأول الذي تشارك فيه الثنائي تامر حسني وشيرين عبد الوهاب الغناء سويًا، لكن في "بص بقا" تأتي بصمة تامر في الكتابة والتلحين.
عكست الكلمات التي كتبها نجم الجيل جزءًا من شخصية شيرين التي تصدّرها دائمًا، حيث لا يوجد فلتر في حديثها، ففي الكوبليه الأول يترك بعض الجمل دون تكثيفها أو تصحيحها مثل جملة "انت بقى اللي انت كنت شايف"، مما يضفي حميمية وخصوصية ذاتية للأغنية، وكأننا نستمع لوصلة عتاب واقعية لها مع حبيب متخيل. تعكس أيضًا الكلمات مراحل مختلفة من الفقد والحنين بين الغضب المُقدم في أول كوبليهين؛ لاذع وغاضب ومُستغني، ثم التذكير بالمزايا التي خصته بها في علاقتهما، قبل الانتهاء بالتطرق للهجر والإهمال.
حتى التوزيعات التي وضعها تامر حسني مع أحمد عادل، كانت مليئة بالتفاصيل، حيث استعملا الموسيقى الإلكترونية الراقصة في البداية، كما وظفا ريفات الجيتار الإلكتروني (Guitar Riffs) المكتومة مع اللحن الشعبي المكون من الطبل البلدي والمزمار، ليعطيا وقعًا مميزًا للأغنية. *من اختيارات يوسف علي
بتوحشني
صدرت أغنية "بتوحشني" ضمن ألبوم شيرين الفردي الأول "جرح تاني"، الذي ضم العديد من الأغاني الصاخبة التي استحوذت على الاهتمام مثل "صبري قليل" و"أنا في الغرام" و"أيه أيه"، وأغاني درامية ذات صبغة طربية مثل "جرح تاني". وما بينها تاهت "بتوحشني" لشيرين؛ الأغنية الأكثر رقة ورومانسية في الألبوم؛ أغنية تشبه ستايل الأغاني التي قدمتها شيرين في السنوات اللاحقة وتتفوق على العديد من هيتاتها الرومانسية.
الأغنية تميزت بلحن رياض الهمشري البسيط والعاطفي، الذي يفسح المجال لصوت شيرين كي يتلألأ بأداء ناعم خالي من الاستعراض، معتمدًا على إحساس يُبرز هشاشة العاشق وقلقه أمام احتمالية الفقد. والكلمات التي كتبها نصر محروس، والتي تتكئ على تكرار فعل "بتوحشني"، أعطت الأغنية إيقاعًا وجدانيًا يتصاعد مع التوتر الدرامي للحب المتناقض ما بين ثنائيات الحضور والغياب، الفرح والخوف. يمكن القول إن "بتوحشني" كانت لحظة مبكرة لاكتشاف الهوية الرومانسية لشيرين. *من اختيارات عمر بقبوق