نحتفل اليوم بميلاد ذكرى، الفنانة التونسية التي بدأت مشوارها منذ الطفولة، وسرعان ما أثبتت موهبتها في الساحة الفنية المحلية والإقليمية. منذ ظهورها على خشبة المسرح في تونس بالثمانينيات، وحتى انطلاقها إلى ليبيا ومصر والخليج، استطاعت أن تدخل هذه المشاهد المختلفة بقوة. شكّلت مسيرتها رحلة تطور مستمرة في الغناء، حيث جمعت بين الأصالة الطربية والإتقان الصوتي، وقدرتها على التعبير العاطفي بصدق وعمق. ورغم رحيلها المفجع والمبكر بعد مسيرة استمرت لحوالي 20 عام، إلا أنها تركت بصمة واضحة في تاريخ الأغنية العربية.
نشارك معكم في هذه القائمة 10 أغاني من تفضيلات تفريقنا بصوت ذكرى:
كل اللي لاموني
في "كل اللي لاموني"، يتجلّى العشق كقوة تتغذى من الرفض لا تضعف به. الأغنية تبني سرديتها على معادلة معكوسة: كلما اشتد لوم الآخرين، ازداد الإصرار على التمسك بالحب، وكأن الملامة نفسها تتحول إلى وقودٍ للعاطفة. ذكرى لا تقف في موقع الدفاع أمام الرفض الاجتماعي لعلاقة الحب، بل تعيد قراءة المشهد من منظور خارجي؛ تستنج أن اللائمين ليسوا خصومًا بل شهودًا، ومن يلومها لا يفعل سوى الاعتراف بسحر الحبيب، غيرةً أو رغبةً مقنّعة. بهذا، يصبح الحب فعلًا جماعيًا يُرى في عيون الغرباء قبل أن يتجسد بين العاشقين.
الموسيقى تعكس هذا البناء المزدوج: تبدأ بافتتاحية فلامنكو بجيتار غجري وموال، كأنها حالة تأمل أو مونولوج داخلي. ثم، بعد دقيقة، ينقلب الإيقاع إلى مقسوم شرقي، ليقود الأغنية إلى العلن، وتغني ذكرى بأداء طربي تسعيناتي لتكشف استنتاجاتها وتتفاخر بجبها.
الأغنية صدرت ضمن ألبوم "الأسامي" سنة 1997، وهي من كلمات أجمد شتا وألحان صلاح الشرنوبي وتوزيع طارق عاكف. *من اختيارات عمر بقبوق
أجيلك شوق
صدرت أغنية "أجيلك شوق" سنة 1999 ضمن ألبوم "ذكرى 2"، وهي من كلمات تركي وألحان طارق محمد وتوزيع حميد الشاعري. ومعها تثبت ذكرى أنها واحدة من أكثر الأصوات العربية التي برعت في تقديم الأغنية الخليجية، ليس بصوتها الطربي الاستثنائي فقط، بل بقدرتها على حمل هذا اللون إلى مساحات جديدة من الحداثة والتجريب، لتصير جزءًا من عملية تجديد شكل الأغنية الخليجية في نهاية التسعينات.
الأغنية تشكّل حالة خاصة؛ إذ ينقل حميد الشاعري تجربته المصرية والليبية كملحن وموزع إلى بيئة خليجية، فيغامر بمزج الشعر الصحراوي مع نسخته الخاصة من إيقاع المقسوم بصوت إلكتروني الذي طبع موسيقاه، ومع خطوط أورغ تسعيناتية لها صدى الإرث الصعيدي؛ فجاءت الأغنية كجسر من الأوتار، تصل بين ضفتي البحر الأحمر، وتكسر الحدود بين عالمين موسيقيين.
ورغم أن خصوصية الأغنية تكمن بتوزيعها الموسيقي، ولكن جماليًا، فإن العنصر الأكثر تألقًا هو الكلمات، التي تأتي على لسان عاشق يمنح نفسه كاملةً ولا يتلقى إلا بعضًا من الآخر. "أجيلك شوق وتجيني ذوق" تلخص هذا الخلل، حيث الحب يتحول إلى ميزان مختلّ بين عطاء مطلق وردّ متردّد. *من اختيارات عمر بقبوق
الأسامي
"الأسامي" كانت بلا شك من أبرز المحطات الموسيقية العربية في حقبة التسعينيات، حين كان فنانون مثل ذكرى ووردة وجورج وسوف وسميرة سعيد وغيرهم، يثبتون بصحبة ملحنين مثل صلاح الشرنوبي، أن الطرب العربي لم ينته، وأن بإمكانهم جمع الجوانب التقليدية والحديثة معًا في أغنية واحدة. ثبتت الأغنية في ذاكرة الجمهور العربي، وأعادت تقديمها عشرات المواهب والأصوات عبر العقود لتثبت جدارتها وتمكنها أمام المستمعين، فأغاني ذكرى اختبار ثقيل الوزن لأي صوت.
حين نعيد سماع الأغنية اليوم، لربما بدت كلمات وليد زريقة شديدة البساطة، لكنها مع ذلك حُفرت في وجدان الجمهور، إذ تمنحها انفعالية الجمل اللحنية، وتكرار كلمات مثل "راح!"، مزيدًا من التأثير والقوة بحيث لم يتطلب الأمر تعابير مركبة وأوصاف وتشابيه كثيفة لنقل مشاعرها. *من اختيارات هلا مصطفى
إلين اليوم
كما في حالة نجمات مثل أصالة وأنغام، كانت ذكرى من الأسماء السباقة لتقديم اللهجة الخليجية والوصول إلى قلوب الجمهور الخليجي في التسعينيات. ساعدها في ذلك إيمان الموسيقار الراحل طلال مداح بموهبتها، وقد امتدح صوتها في عدة مناسبات وقدم لها العديد من الألحان التي ظهرت ضمن ألبومها "قالها".
من بين أغاني الألبوم تميزت أغنية "إلين اليوم"، ونالت أصداء واسعة لدى الجمهور. تكاملت فيها الألحان مع توزيعات طارق عاكف، ومع كلمات الشاعر تركي التي أرست حالة شعورية شديدة الرهافة في التعبير عن الشوق لحب انقضى زمانه: "إلين اليوم وقلبي دقته أسرع/ إلين اليوم ووردي بالندى يدمع/ ولا أدري الندى من وين/ يمكن مثلي يرجيهم". لكن أداء ذكرى هو ما يغلف كل عناصر الأغنية بصوتها شديد الخصوصية الذي يجمع بين القوة، وبين رقة شديدة تظهر في منعطفات اللحن والنقلات بين جمله. *من اختيارات هلا مصطفى
حبيبي طمن فؤادي
شكّلت أغنية "حبيبي طمّن فؤادي" واحدة من المحطات البارزة في بدايات ذكرى الفنية في تونس. لحنها الموسيقي عبد الرحمن العيادي، الذي ارتبط اسمه بمسيرة ذكرى في الثمانينات، وكتب كلماتها الشاعر حسونة قسومة. قدّمت ذكرى هذه الأغنية لأول مرة في مهرجان الأغنية التونسية سنة 1987.
جاءت الأغنية أشبه ببطاقة تعريف لصوتها، لأنها صيغت بلحن طربي متكامل أتاح لذكرى أن تُظهر مساحة صوتها الواسعة ومرونتها في الانتقال بين القرار والجواب، إضافة إلى قدرتها على القفلات الدقيقة. اللافت أن اللحن بدا وكأنه مُفصَّل خصيصًا على صوتها، فانسجم الأداء مع التوزيع الموسيقي التقليدي القريب من روح الأغنية الطربية في الخمسينيات.
تعتبر "حبيبي طمّن فؤادي" من أهم أغاني مرحلة البداية لذكرى في تونس، إذ شكّلت مع غيرها من أعمالها مع العيادي ملامح هويتها الفنية الأولى، ورسّختها كصوت استثنائي قادر على حمل الألحان الطربية الثقيلة، ومهّدت الطريق أمام انتشارها لاحقًا في ليبيا ثم في مصر. *من اختيارات نور عز الدين
الحب النقي
تعتبر أغنية "الحب النقي" واحدة من الأعمال البارزة في مسيرة ذكرى محمد، وقد سجّلتها في دمشق بالتعاون مع الملحن الليبي خليفة الزليطني والشاعر عبدالله منصور. وقد أتاحت لها هذه الأغنية فرصة إبراز صوتها وقدرتها على أداء لهجات قريبة من لهجتها التونسية، مما ساعدها على التواصل مع الجمهور الليبي بسهولة.
نجاح الأغنية في ليبيا جعلها محطة أساسية في مسيرة ذكرى الفنية، إذ فتحت أمامها أبواب الحفلات والعروض هناك، وعرّفت الجمهور الليبي بصوتها الطربي، القادر على التعبير عن مشاعر الحب الصادق بطريقة واضحة ومباشرة. وقد ساعدها هذا النجاح على توسيع حضورها في المشهد المغاربي، لتصبح جزءًا من المشهد الغنائي في تونس وليبيا والمغرب، قبل أن تنتقل لاحقًا إلى مصر لاستكمال مسيرتها الفنية. *من اختيارات نور عز الدين
يا مشغل التفكير (مع أبو بكر سالم)
تعاونت ذكرى محمد مع أبو بكر سالم في أغنية "يا مشغّل التفكير" سنة 1997، لتكون أول تجربة لها في الغناء الخليجي. شكّل هذا التعاون نقطة مهمة في مسيرتها، إذ عرّفها على خصوصيات الأداء الخليجي من نغم وإيقاع، وفتح أمامها أبواب العمل مع كبار الشعراء والملحنين في المنطقة.
قدّمت الأغنية الطرب الخليجي الأصيل، بأسلوب اندمج مع قدرتها الصوتية على أداء المقامات الشرقية، ما يمكن القول أنه جاء كأسلوب تجديدي مقارنة بالأعمال الخليجية التقليدية في تلك الفترة. أثّر نجاح الأغنية على مسار ذكرى، ومهّد الطريق لألبومها الخليجي الأول "ذكرى 1" سنة 1998، وأكد قدرتها على التكيّف مع ألوان موسيقية مختلفة مع المحافظة على هويتها الطربية. *من اختيارات نور عز الدين
بدري بدري
سجّلت ذكرى أغنية "بدري بدري" باللهجة الجزائرية في أوائل التسعينيات، لتوسّع نطاق حضورها في المشهد المغاربي وتكون الأغنية الجزائرية الوحيدة في مسيرتها.
اعتمدت الأغنية على الطابع التراثي الجزائري مع لمسات صوتية شرقية، ما أظهر قدرتها على التكيّف مع لهجات وألوان موسيقية متعددة. عزّزت "بدري بدري" مكانة ذكرى كفنانة قادرة على تجاوز الحدود، ومهّدت الطريق لتقديم أعمال ناجحة وحفلات في تونس وليبيا والمغرب، مؤكدة مرونتها الصوتية والفنية. *من اختيارات نور عز الدين
الله غالب
من بين أغنيات ألبوم "يانا" الصادر عام 2000، تبرز "الله غالب" كواحدة من العلامات المميزة في مسيرة ذكرى. الأغنية التي كتب كلماتها وليد رزيقة ولحنها صلاح الشرنوبي، جاءت بأسلوب مختلف عما اعتاده جمهور ذكرى في تلك الفترة. فبعيدًا عن الطابع الكلاسيكي الطويل نسبيًا الذي اتسمت به أغنيات مثل "وحياتي عندك" و "الأسامي"، قدمت "الله غالب" روحًا أكثر خفة وعصرية بمزاج يقترب من البوب السائد في مطلع الألفينات دون أن يفقد أداء ذكرى عمقه وجمالياته المعتادة.
اللافت أن هذه الأغنية لم تكن مُعدة في الأساس لذكرى، بل كانت مخصصة للمطربة نجوى كرم لتكون أولى تجاربها باللهجة المصرية بحسب ما رواه ملحنها صلاح الشرنوبي في أحد البرامج. غير أن تراجع نجوى عن الفكرة فتح الباب أمام ذكرى لتتبناها بحماسة شديدة إلى درجة أنها تكفلت بإنتاجها من مالها الخاص لتلحق بالألبوم قبل صدوره وتصبح لاحقًا الأغنية الرئيسية فيه من وجهة نظر الجمهور.
ويضيف الشرنوبي أن "الله غالب" لم تكن العمل الوحيد الذي كان بصدد تنفيذه مع ذكرى وقتها بل كانت هناك أغنية أخرى بعنوان "فرصة أخيرة" كانت قيد التحضير، لكنها لم ترى النور إلا بعد وفاة ذكرى بسنوات.*من اختيارات نورهان أبو زيد
يوم عليك
في نوفمبر العام 2003 صدر ألبوم "يوم عليك" ليكون آخر ما قدمته الراحلة ذكرى قبل وفاتها المفجعة بثلاثة أيام فقط، بحسب ما أفادت به وسائل إعلامية عديدة. وقد تحولت الأغنية الرئيسية "يوم عليك" التي صورتها فيديو كليب، إلى ما يشبه رسالة الوداع الأخيرة بصوتها. تقول كلماتها ببساطة موجعة: "يوم ليك ويوم عليك/ مش كل يوم معاك" ولكن الأداء كان يحمل شحنة عاطفية كثيفة، تفيض حزنًا ووجعًا كما لو كانت تغني عن ألم وشيك لم يكن في الحسبان.
ورغم بساطة التركيب اللغوي للكلمات فإن صوت ذكرى المشحون بالألم من حبيب خذلها طغى على كل شيء، حتى بات كثيرون يرون في الأغنية نبوءة حزينة لمصيرها الصادم. جاءت وفاتها كواقعة سريالية فجرت مشاعر الذهول في الوسط الفني، وزادت من وقع الأغنية التي التصقت في وجدان الجمهور كأنها صدى أخير لصوت قرر الرحيل باكرًا، لكنه لم يُنسى قط. *من اختيارات نورهان أبو زيد